المضاربون والتهريب والحصار الخارجي أسباب أرخت بظلالها … كيف نعالج الثغرات في سياستنا النقدية والمصرفية ونمنع تذبذب سعر الصرف ونحسّن الواقع الإنتاجي والاقتصادي؟

يتحدث العديد من التجار والاقتصاديين وخبراء النقد عن وجود ثغرات كثيرة في تعليمات مجلس النقد والتسليف والمصرف المركزي المتعلقة بعمل المصارف والتحويلات المالية والمبالغ النقدية المسموح قبضها في اليوم ما انعكس وينعكس سلباً على الحركة التجارية والإنتاجية وخاصة أن البنية التحتية للمصارف غير جاهزة كما يجب للتعاملات الالكترونية بين المنتجين والتجار إضافة لعدم انتشار ثقافة (غير الكاش) بشكل جيد، كما يشيرون إلى أن تطبيق القوانين الصادرة بخصوص منع التعامل بغير الليرة السورية يتم بشكل خاطئ يسيء للفعاليات وللتجار ممن لا يستطيعون الاستيراد إلا بالقطع الأجنبي ويطالبون بوضع آليات دقيقة وواضحة لتطبيق القوانين والقرارات في هذا المجال.

في ضوء ما تقدم وفي ضوء ما طرحه البعض في هذا المجال خلال اللقاء الذي جمع محافظ طرطوس مع عدد من التجار والمستوردين في مقر غرفة تجارة وصناعة طرطوس التقت «الوطن» بعض المختصين من أكاديميين وخبراء وسألتهم عن وجهة نظرهم فيما ذكرناه بداية ومقترحاتهم لمعالجة الثغرات والمشكلات القائمة وبما يؤدي إلى استقرار سعر الصرف وتحسين الواقع النقدي والإنتاجي والاقتصادي في بلدنا فماذا كانت النتيجة؟

• يقول د. هادي خليل( دكتوراه في الاقتصاد المصرفي والمالي– رئيس قسم العلوم المالية والمصرفية في كلية الاقتصاد- جامعة طرطوس):

يمكن القول إن هناك عدة أدوات تحكم علاقة المصرف المركزي بالمصارف التجارية وهي الأدوات الكمية والنوعية المعروفة لجميع المهتمين في الشأن النقدي، من ناحية الأدوات الكمية، مازلنا نعتمد على الأدوات التقليدية والمشكلة أنه على الرغم من اعتبارها تقليدية من حيث النشأة والتطبيق إلا أنه بالنظر إلى الفضاء النقدي في سورية نجد أنه لا يتم استخدامها إلا ضمن النطاق الضيق حيث يتم التركيز بشكل فعلي ورئيسي على أداة الاحتياطي القانوني (جرى تخفيضه في الربع الثاني من عام 2011) وهي أداة يتحكم في فعاليتها العديد من العوامل مثل وضع الدورة الاقتصادية ومرحلتها، وخاصة فيما إذا كان المتغير النقدي المستهدف هو العرض النقدي أو معدلات الفائدة الرسمية.

ويضيف خليل: غياب الوضوح في تحديد المتغير المستهدف يحد من فعالية هذه الأداة. بالنظر إلى الأدوات الكمية التقليدية الأخرى نجد غياباً تاماً لقنوات أخرى مرنة مثل عمليات السوق المفتوحة وهو أمر مفهوم في ضوء ضعف ما نطلق عليه الأنشطة المصرفية السوقية وهو أمر يعود بالدرجة الأولى إلى عدم نضوج السوق المالي في سورية ومن ناحية أخرى إلى عدم القيام الجدي بإصدار أوراق مالية حكومية بالحجم المناسب والمطلوب للتأثير على المتغيرات النقدية في سورية.
وبالنظر إلى بيئة المصارف بشكل عام نجد ضعف معدلات الإقراض خلال السنوات الماضية وهذا مترافق مع سيطرة مطلقة لظاهرة التضخم الركودي فالاقتصاد السوري لم ينجح في تسجيل معدل نمو موجب منذ الربع الأول من عام 2012. فعدم فاعلية الروابط آنفة الذكر والتي تربط بين المصرف المركزي والمصارف إلى عدم فعالية الأدوات والقنوات النقدية في تحقيق أهدافها النقدية الوسيطة والاقتصادية النهائية. هذا الأمر واضح جداً خاصة عندما نشاهد مكونات ميزانيات المصارف الخاصة في سورية، حيث نرى نسباً عالية من الاحتياطيات الفائضة والأمر الملفت للنظر النسبة العالية جداً لنسبة كفاية رأس المال وهي نسبة تتجاوز بشكل كبير النسبة المقترحة من لجان التنظيم البنكي الدولية وهو برأيي لا يدل على سلامة الوضع المالي للمصارف بقدر ما يدل على عدم قيام القطاع المصرفي بدوره المناسب في تغذية الاقتصاد بالسيولة المطلوبة. أمر آخر يجب لفت النظر إليه هو النسبة المرتفعة للأرباح غير التشغيلية المصرفية وهو أمر يعود أيضاً إلى ضعف كفاءة النشاط التقليدي المصرفي في الوساطة بين المدخرين والمستثمرين أصحاب الحاجة للأموال، وهو أمر غير مفهوم في ظل ضعف ارتباط المصارف بأنشطة السوق غير الفعال أصلاً، برأينا أي إجراء من المصرف المركزي يجب أن يلاحظ ويسعى لإيجاد الأدوات المناسبة للتأثير عليها.

وفيما يتعلق بفرض إجراءات وقيود على النقد المحلي قال الدكتور خليل: هو أمر مفهوم في ظل ارتفاع مؤشر نقدي حساس وهو نسبة العملة في التداول إلى إجمالي الودائع والتي تصل أحياناً إلى 190 بالمئة. هذا يعود بالدرجة الأولى إلى عدم سيادة الوعي المصرفي من ناحية عرض الأموال وأيضاً تتجلى المستويات المنخفضة من الوعي المصرفي من ناحية الطلب على الأموال وهذا بالدرجة الأولى بسبب عدم نجاح شركات القطاع الحقيقي في إقناع المصارف بجدوى مشاريعهم وبالتالي جدوى الحصول على القروض، والدليل على ذلك المعدل المنخفض جداً لنسبة القروض إلى إجمالي الودائع في جميع المصارف التقليدية السورية. والمشكلة ليست في جانب مصادر التمويل لدى المصارف وإنما باستخدامات هذه الأموال.

وتابع قائلاً: إذا راجعنا الإجراءات المعتمدة حالياً نجد أنها تتمحور في كيفية ضبط عمليات السحب من هذه الودائع، وهو أمر مفهوم ومطبق في جميع البلدان التي تتعرض لأزمات اقتصادية فما بالنا إذا كنا نتحدث عن حرب اقتصادية واجتماعية وعسكرية تشن على بلدنا، وهو أمر عائد بالدرجة الأولى كأداة للتحكم في العرض النقدي المحلي بمقابل الطلب الكبير والمتزايد على النقد الأجنبي. لكن كان من الأنجع التركيز في الإجراءات على جانب استخدامات المصارف واستثماراتها من حيث تشجيعها على توجيه هذه الودائع إلى القطاع الحقيقي، وخاصة عندما نتكلم عن المشاريع الصغيرة والمتوسطة وهو أمر يجب البدء به على الفور. يجب إعطاء أولوية قصوى لحاضنات الأعمال ولبنوك التمويل الصغير وهذا لن يتحقق من دون زيادة ثقافة الإقراض في جانبي العرض والطلب على الأموال التي تحدثنا عنها.

مقاربة جديدة للسياسة النقدية في سورية

أما الدكتور ذو الفقار علي عبود (كلية الاقتصاد بجامعة طرطوس) فيقول رداً على أسئلتنا:

• هناك أسباب موضوعية لتذبذب سعر صرف الليرة، تتعلق بالحرب والحصار الخارجي، والإجراءات وحيدة الجانب علينا وعلى الحلفاء، أدت إلى تراجع الإنتاج في بعض القطاعات، وتجميده في قطاعات أخرى، وزيادة في تكاليف تأمين البدائل المحلية.
وقد ظهرت نتائج ذلك في زيادة الاستيراد وتراجع التصدير وتجلى ذلك في حدوث عجز كبير في الميزان التجاري.

• من الأسباب الموضوعية الأخرى، والتي كان تأثيرها غير مباشر، التغيرات الدولية في أسعار العملات والسلع الإستراتيجية وبعض الخدمات والمواد الأولية ولاسيما أسعار النفط والغاز.

• هناك أسباب محلية تتعلق بطريقة إدارة الأزمة، والهدر في المال العام، والفساد الإداري والمالي، وضعف الخبرة لدى بعض المسؤولين، وهذه الأسباب أرخت بظلالها على السياسة المالية والنقدية.

• وهناك أسباب محلية تتعلق بالتهرب من تطبيق التشريعات، كالتهريب عبر المنافذ الحدودية الرسمية، والتهرب الضريبي بأنواعه، والتي تم تقدير مبالغه بحوالي 160 مليار ليرة، تسربت من الخزينة العامة للدولة.

• المضاربون على الليرة بأنواعهم، سواء الساعين نحو مراكمة الثروات، أو المرتبطين بجهات معادية، أو الخائفين من تدهور القدرة الشرائية لثرواتهم، يضاف إليهم تجار الحرب وأتباعهم وأدواتهم.

• عدم شفافية السياسة المالية والنقدية، وهذا ينعكس في هيمنة سلوك القطيع وعدم الاطمئنان من هذه السياسة.
وبشأن اقتراحاته للمعالجة أجاب الدكتور عبود: هناك مجموعة من الإجراءات يمكن اتخاذها على المدى القصير والمتوسط، لزيادة إيرادات إضافية للخزينة، والسيطرة على معدل التضخم في سورية، ومنها على سبيل المثال:

• زيادة الفائدة على الودائع، سواء بالليرة السورية أو بالعملات الأجنبية، ولتصل إلى 20 بالمئة مقابل أجل محدد، وهذا ما يشجع الأفراد على إيداع أموالهم في المصارف وهنا لا بد من بيئة تشريعية مشجعة تضمن للمودعين حرية سحب مدخراتهم عند الطلب ومن دون سقف. وعلى الحكومة توظيف هذه الودائع في مشروعات تنموية وليس في إعادة إقراض.

• تقنين منح القروض إلا للمشاريع التنموية التي تحرك عجلة الاقتصاد الوطني وربط الإقراض بالإنتاجية.

• إصدار سندات خزانة من المصرف المركزي لامتصاص الفائض من كتلة العرض النقدي في السوق.

• حصر استيراد السلع التي لا يمكن إحلال بدائل محلية مكانها بيد الدولة أو أي جهة أو هيئة تابعة لها.

• رجل الأعمال سامر عبد اللـه رئيس اللجنة الاقتصادية في غرفة تجارة وصناعة طرطوس أجاب على مجمل تساؤلات «الوطن» بالقول:

بعد أكثر من 9 سنوات على الحرب في سورية لا تزال التحديات والمشاكل الاقتصادية والاجتماعية التي تواجه بلدنا الحبيب تستعصي على الحل، فقد تراجع الناتج المحلي للبلاد بشكل كبير وفي الفترة الماضية فاقمت الأزمة المالية التي يشهدها لبنان منذ عام 2019 ووباء كورونا من تداعيات الأزمة في سورية، مع هذا التزامن كانت فرصة لأشكال جديدة من تراكم رأس المال ضمن نظرية اقتصاد الحرب.

منذ عام 2016 كان هناك توجه حكومي لوضع خطة تسمى (التشاركية الوطنية) تكون إستراتيجية جديدة للاقتصاد السياسي تحل محل اقتصاد السوق الاجتماعي المطور عام 2005 الذي كان بالفعل قد أعطى الأولوية للتحرر الاقتصادي وتراكم رأس المال الخاص، بحيث يكون المراد المحقق هو زيادة التمويل المقدم من القطاع الخاص بما يتكامل مع الاستثمارات الحكومية.

بقي هذا النشاط قائماً لنهاية عام 2018 وبالفعل تم الإعلان عن مشاريع ضخمة وكبرى لها علاقة بالبنى التحتية لتكون أمام المستثمرين من القطاع الخاص.

وأضاف عبد الله: مع بداية الأزمة اللبنانية وتجميد الأموال السورية في البنوك اللبنانية ومع تفشي وباء كورونا في سورية ولبنان دخلنا إلى واقع جديد تماماً أثمر هذا الواقع عن صيغة جديدة عنوانها الأوسع (التضخم أصبح أمراً واقعاً). مع بداية عام 2020 تم إصدار مرسوم يتعلق بآلية تداول الدولار وأيضاً بدأنا مرحلة جديدة ترافقت مع تداعيات بدء تنفيذ قانون قيصر وأصبح العنوان العريض للاقتصاد في سورية (الفوضى في آليات الأعمال الاقتصادية).

وتابع بخصوص الحلول للوضع القائم قائلاً: قد لا نسطيع إيجاد حلول ناجحة تكون سارية المفعول منذ اللحظة الأولى ولكن يمكن أن نتبع حلولاً إسعافية بحيث نجفف ينابيع الفوضى التي تؤثر وتزيد من الهموم المعيشية للمواطنين يومياً أبرزها تقلبات الأسعار الموجودة للمواد الأساسية نتيجة تقلبات أسعار الصرف.

وعلية نستطيع اقتراح النقاط الآتية:

• إيجاد آلية لتحديد سعر صرف موحد مواز لجميع الأعمال والأنشطة من إجازات استيراد أو دفع بدلات أو تعاملات حكومية على أساس سعر صرف موحد متقارب بين سعر السوق السوداء والسعر الحكومي ويكون سعراً متغيراً.

• إيجاد التشريع المناسب لدعم تصدير المواد الغير إستراتيجية والتي ممكن أن تكون رافداً أساسياً لتثبيت سعر الصرف للعملات الصعبة بحيث يتم تدفق القطع الأجنبي إلى الوطن بغض النظر عن الآليات لأننا في ظل هذه العقوبات المفروضة والجائرة علينا لابد لنا من الاستعانة باقتصاد الظل، ومن هنا ننتقل إلى الخطوة التالية وهي أن نسمح بمرور البضائع التي لا يمكننا استيرادها نتيجة العقوبات ولكن بشكل مراقب من الدولة وعن طريق معابر خاصة لسد الاحتياجات الأساسية للمواطنين.

• لا يمكن أن تكون (السورية للتجارة) بديلاً عن تأمين السلع اليومية بحيث يمكننا الاستغناء عن القطاع الخاص بكافة فئاته التجارية وخصوصاً أن المؤسسة تأخذ دعماً كاملاً بسعر الصرف عند استيرادها للمواد الأساسية لأنه حسب القانون الأساسي لقانون التجارة عالمياً لا يمكن الحصول على أسعار متوازنة إلا بوجود منافسة بين التجار على الترويج والتسويق لبضائعهم لكن بشرط أن يكون التمويل متساوياً.

• السماح للصناعيين وتحديداً الصناعات الغذائية باستيراد المواد الأولية التي هم بحاجة لها في صناعاتهم من إيرادات التصدير التي يقومون بتصديرها من دون أي عوائق روتينية.

• بخصوص منع التعامل بغير الليرة السورية إصدار التشريع المناسب لإيجاد صيغة مفهومة وواضحة لجميع الفئات التجارية والصناعية ممن يستطيعون التعامل وإظهار معطياتهم الدقيقة لكي يتصرفوا بحرية في تعاملاتهم المالية التي لا يستطيعون إظهارها حالياً (يوجد تجار لا يستطيعون الاستيراد إلا بالقطع الأجنبي وبالوقت نفسه لا يستطيع المصدر إتمام معاملاته واستلام أموال الشحنات المصدرة إلا بالقطع الأجنبي).

• تحرير الحوالات المالية داخل البلاد وتسليم واستلام المبالغ النقدية في البنوك لتصبح مفتوحة في ظل واقع التضخم الحالي (تجار الخضار والفواكه الذين يشترون من المزارعين / كاش بالليرة السورية / لا يمكنهم التعامل مع البنوك /المزارعين/ وبالوقت نفسه لا يمكنهم سحب مبالغ كبيرة من البنوك حالياً) إضافة لعدم توافر البنية التحتية المناسبة للدفع الالكتروني وفتح حسابات في البنوك لإتمام العمليات التجارية على كامل الجغرافية السورية.

وختم بالقول: نعلم حجم الضغوطات الهائلة الممارسة على وطننا بسبب قانون عقوبات قيصر ولكن نعلم أيضاً بأنه يجب علينا أن نصدر التشريعات المناسبة لكي لا يصبح لدينا قانون قيصر داخلي ونكون نحن من أصدرناه بحق أنفسنا.

الوطن

شارك