ليست المرة الأولى التي تذهب “الحكومة” فيها للبحث عن أملاكها المؤجرة للغير، حدث ذلك منذ عدة سنوات، عندما قررت حكومة المهندس عماد خميس السابقة، فتح هذا الملف، وفوجئت بعشرات العقارات والأصول المستثمرة من “القطاع الخاص” بـ “تراب المصاري” كما كانت تقول، وشكلت آنذاك لجنة وزارية برئاسة وزيرة الدولة لشؤون مشاريع الاستمار وفيقة الزعيم (هذه الوزارة -بدون حقيبة- ألغيت فيما بعد عندما تشكلت حكومة المهندس عرنوس الأولى 2020).
وعليه فإن ما ذكره وزيرة المالية الدكتور كنان ياغي مؤخراً أمام أعضاء مجلس الشعب، حول المحلات أو العقارات المملوكة للدولة وسط العاصمة والتي تؤجر بألف وألفين وخمسة آلاف ليرة سنوياً، ليس اكتشافاً جديداً، حيث خاضت حكومة خميس في هذا الملف ببداية عهدها عام 2016، لكن كل الأحاديث عن إعادة تقييم تلك العقارات، والتسويق الإعلامي للأمر، لم يمنع من انحرف هذا التوجه عن مساره، واختزل الأمر ببعض الاستثمارات التي كانت كما يقال في اللغة الدارجة “عليها العين”، وبصفقتين ملياريتين (واحدة لمول قاسيون وأخرى لمول المالكي) تراجع هذا الملف إلى الأدراج.
وبما أننا اليوم أمام تكرار هذا التوجه -من حيث التصريحات- علينا أولاً أن نتحقق من النتائح التي تحصلت في عهد الحكومة السابقة، ولا نستبق الأحداث ونعتبر أن في هذا ما يحقق مورد مهم للخزينة كما يتمنى أو يرى وزير المالية.
قبل ذلك لا بد من التذكير ولو بإيجاز كيف تعاملت الحكومة السابقة مع هذا الملف، وتحديداً فيما يتعلق بمولي (قاسيون والمالكي) كونهما الصفقتين الأكبر في هذا السياق، حيث تركت “الحكومة” آنذاك المجال للمؤسسات صاحبة الملكيات البت في الاستثمارات التي تقع ضمن أملاكها.
فذهبت وزارة التجارة الخارجية مثلاً بما يخص “مول قاسيون” التابع لملكيتها، إلى طرحه في مزاد علني بعد الإخفاق فيلا التوصل مع المستثمر القديم إلى حل يرضي الطرفين، وفجرت مفاجأة من العيار الثقيل عندما انتقلت بقيمة استثمار المول من من 20 مليون إلى مليار و20 مليون في السنة.
بينما أقدمت محافظة دمشق بالنسبة “لمول المالكي” للضغط على المستثمر القديم لرفع عائداتها من حصتها في المول البالغة (51 %)، ولأن المحافظة كانت مرتبطة بعقد مع المستثمر وفق صيغة (BOT)، استندت إلىى قانون قديم من أيام (الوحدة بين سورية ومصر)، لفسخ عقد المستثمر، وبالفعل حصلت المحافظة على تأييد المجلس الأعلى للسياحة، رغم المخالفات القانونية الواضحة!.ومن باب التذكير فقط، نشير إلى أن الصفقتين المذكورتين ذهبتا لمستثمر واحد كان لمع نجمه حديثاً في عالم المال والأعمال، بينما كانت تدور في الأوساط التجارية أسئلة من قبيل كيف لهذا المستثمر أن يربح؟!، أحد الضالعين في السوق حينها قال: “سيربح فيما لو تراجع سعر صرف الليرة ووصل الدولار إلى ألف ليرة!!، كان سعر صرف الليرة حينذاك يتذبذب دون الـ 500 ليرة!.
ما حدث بعد صفقة “مول قاسيون” هو أن المول توقف عن العمل لنحو السنه، توسع المستثمر الجديد في المساحات، ثم طرحها للاستثمارات الفرعية، بأسعار قورنت وقتها بأسعار بعض الاستثمارات في فندق الفورسيزن، وهذا ما حدث أيضاً بالنسبة لـ”مول المالكي”، بينما كانت وتيرة تراجع سعر صرف الليرة يوماً بعد يوم تذهب باتجاه تسجيل مستويات قياسية، اليوم نحن نتحدث عن سعر صرف رسمي الدولار بـ 2500 ليرة!، ما يطرح تساؤلاً جديداً هل يمكن اعتبار قيمة تلك الصفقات المليارية اليوم “تراب المصاري”؟!.
تلك أمثلة على الحكومة الحالية وتحديداً وزير المالية -الذي بدا متحمساً للخوض في هذا الملف- الالتفات إليها، وإعادة قراءتها لجهة عدم الوقوع بأخطاء من قبيل القفز على القوانين، والدخول في دوامة المضاربة العقارية، والاستنسابية في استهداف استثمارات دون غيرها، وتوقف الأعمال.
ولعل الطرح الذي قدمته وزيرة الاقتصاد السابقة الدكتورة لمياء عاصي عبر حسابها الشخصي في فيسبوك تعقيباً على تصريح وزير المالية حول عقارات الدولة المستثمرة من القطاع الخاص، يصبح منطقياً، حيث اقترحت بأن تتولى إدارة الملكيات العامة (أملاك الدولة), هيئة مستقلة ومتخصصة بإدارة العقارات والأراضي والمؤسسات, لا من قبل دائرة في وزارة المالية ليست مؤهلة لتلك المهمة البالغة الأهمية والخطورة على حد وصفها.
فالتجربة السابقة والتي سمحت لكل جهة عامة إدارة ملف إعادة تقييم أملاكها المستثمرة من القطاع الخاص، كان لها نتائج باهتة وغير مشجعة، بدليل ذلك التصريح الذي أدلت به وزير الدولة لشؤون مشاريع الاستثمار في العام 2019، أي بعد نحو 3 سنوات من فتح هذا الملف، حيث كشفت أن بعض الوزارات كانت غير مبالية، وأشارت إلى وجود مساعٍ لإعاقة فتح ملفات بعض العقارات، لجهة أن القائمين على العمل فيها وجدوا أن هذه الإيجارات قائمة منذ سنين ولا يريدون الخوض فيها، وعليه بدت النتائج خجولة، فمن بين 12 ألف عقار فتحت وزارة الإدارة المحلية ملفاتها، اقتصرت المعالجة على 189 عقاراً فقط!!.
المشهد