“أن تأتي متأخراً أفضل من ألا تأتي أبداً”، هذا ما علينا فعله بعد سلسلة من القرارات والإجراءات الخاطئة التي عصفت باقتصادنا وبالمستوى المعيشي الذي وصلنا إليه حالياً، ففي محاولة لاستدراك تلك الأخطاء والحدّ من تأثيرها على المواطن قدّم العديد من دكاترة الاقتصاد وجهات نظرهم حول الواقع المعيشي الذي نتج عن تلك الإجراءات، وبات البحث عن هوية وإستراتيجية لاقتصادنا أولوية أمامهم، بدءاً من التغيّر الطارئ على تلك الهوية وماهيته موصولاً بفكرة الدعم المطبّقة على شرائح المجتمع والخلل الحاصل بها، فالجميع يشترك بعدم الرضا حول طريقة الدعم والمعايير المطروحة بها لأنها غير ناجعة لهم، ولم يكن لها التأثير الإيجابي في تخفيف الأعباء عن المواطنين، بل ساهمت في خلق أزمات جديدة لم تكن في الحسبان، ومن هنا تأتي ضرورة إعادة النظر بعملية الدعم ووضع نهج اقتصادي يتماشى مع متطلبات المرحلة التي نمرّ بها.
مراعاة الخصوصية
لا بدّ لنا في هذه المرحلة من البحث عن حلول للتحديات الاقتصادية التي نواجهها من أجل الحدّ من تدهور الأوضاع المعيشية، وتحديد الأدوار في إطار التشاركية بين العام والخاص من خلال تشاركيه فعالة وتنمية متوازنة وشاملة ومستدامة، وتحقيق النمو الاقتصادي والعدالة الاجتماعية، كما يجب تحديد ملامح الاقتصاد على خلفية دور الدولة والاحتياجات والتحديات والمتطلبات التي نواجهها، خاصة وأن الأزمة الاقتصادية خلقت فجوة كبيرة بين الطلب والعرض الكلي.
رئيسُ قسم الاقتصاد الدكتور عبد القادر عزوز أوضح لـ”البعث” أن بعض الدول النامية قامت باستجلاب وصفات اقتصادية مستوردة ولم تحقق لهم النتائج المطلوبة، لكن هناك من نجح وأنتج تجربته الخاصة كالصين التي طبقت المفهوم الاشتراكي، مع مراعاة خصوصية مجتمعها وطبيعة النشاطات الاقتصادية التي تمارس فيها، وفي بلدنا وضمن التزام الدولة بالدعم الاجتماعي نجد أنها تعمل على تنظيم وتغيير الاستراتيجيات الاقتصادية السابقة، وتحديد هوية الاقتصاد الذي يعتمد على التخطيط وأهدافه بالوصول إلى تنمية شاملة متوازنة مستدامة ضمن العدالة الاجتماعية.
رفض التأطير
الحكومة ركّزت بشكل أساسي خلال السنوات السابقة على “النتيجة” دون الأخذ بهوية محدّدة للاقتصاد والبحث عن سبل جديدة ومبتكرة لتحقيق العدالة الاجتماعية، يضيف عزوز، يمكننا القول إن الموازنة العامة وظائفها مهمّة لجهة التمويل والتحفيز وخلق فرص عمل، فالإيرادات من جهة الضرائب والقروض والإنفاق العام تحتاج إلى الوعي الضريبي وكيفية تحقيق العدالة الضريبية وتحديد مطارح ضريبية نحقق من خلالها العدالة بشكل أساسي، والاستفادة من الموازنة العامة لتحفيز الإنتاج والاستثمارات ومساعدة ذوي الدخل المحدود، لذلك نقول إن أدوات السياسة الضريبية ليست فقط من خلال الجباية وردّها للخزينة العامة، وإنما هي فلسفة كبيرة حول غرق النظام الضريبي وتحليله، يرفض عزوز فكرة التأطير والانسياق نحو نوع محدّد كمنهج اقتصادي، أما التوجّه لرسم ملامح هويته فهو يحتاج إلى مزيد من النقاش، لكن بكل الأحوال كشفت الأحداث أن الجشع والاستغلال يدفع إلى أزمات اقتصادية متلاحقة، لذلك لا بدّ للدولة من التدخل والإسراع في ضبط هذه السلوكيات والحدّ منها.
إعادة الهيكلة
لا بدّ في هذه المرحلة من إعادة تقييم كفاءة وفعالية الدولة في الجانب الاجتماعي والاقتصادي، وهذا يعتبر ضرورة لأي دولة في العالم، حيث تنتقل من مرحلة إلى أخرى كلّ عشرين إلى ثلاثين سنة.
دكتور الاقتصاد عدنان سليمان أكد لـ”البعث” أن لكلّ نموذج اقتصادي مهما كان ناجحاً وذا كفاءة وفعالية يحتاج للتقييم والخيارين هماً، إما الاستمرار بالنموذج المتّبع بعد إعادة هيكلته من جديد، أو تبني نموذج اقتصادي جديد، وبالنسبة لنا لا بدّ من الحوار والنقاش مع كلّ الفعاليات الاقتصادية والاجتماعية على المستوى القانوني والسياسي كضرورة ملحة لإعادة كفاءة الدولة وتحديداً لمرحلة ما بعد الحرب، وتبني قوتها من جديد وتعزيز دورها الأهم على مستوى الاستثمارات لإعادة إنتاج البنى الاقتصادية التي دمّرت بفعل الحرب، وإعادة إحياء المجتمع الذي تعرّض لهزات كبيرة جداً نتيجة بعض الإجراءات والسياسات التي تعاملت مع موضوع الدعم وفلسفته بشكل كمّي واسع وبشكل كان ينقصه الكفاءة والفعالية.
منع تخلخل المجتمع
فلسفة الدعم ليست مرتبطة بنمط اقتصادي محدّد، فالدعم الاجتماعي هو أقرب إلى الاشتراكية، وبحسب سليمان فإنه حتى في الدول الرأسمالية المتطورة هناك سياسات دعم كبرامج الدعم الصحي والتأمين الاجتماعي وتقديم إعانات مالية وتعويض البطالة، أي أن كلّ الدول تحتاج لمنع تخلخل المجتمع وإعادة إنتاج المجتمع وفق توازن اقتصادي واجتماعي، وبالتالي منطق الدعم هو منطق ملحّ، وخاصة إذا كانت الدولة نامية ومجبرة على إعادة بناء المجتمع من جديد وفق أسس جديدة أكثر فاعلية لمرحلة ما بعد الحرب، لأنها مرحلة ترتبط بإعادة البناء بعد كمية التدمير الحاصل في مؤسساتنا ووزاراتنا.
فلسفة الدعم
إن فقدان الهوية أو النموذج الاقتصادي المعلن عنه يجعل الإدارة الاقتصادية في منأى عن الاحتكام إلى أدوات تحقق أهدافاً، ويرى سليمان أن الحكومات السابقة اعتمدت اللجوء للمنطق التجريبي في السياسات حتى اليوم، والتجريب هو تبني خطة معينة كفلسفة الدعم، وهنا التجريب يصح ويخطئ، لكن مشكلته هو خسارة الوقت وكثرة المتأذين منه، فهو أسهل لمن يقوم بالتجريب من أن يحتكم لنموذج نظري يحاسبه حتى لا يُقال إنه أخطأ، ونخشى أن يكون هناك نيّة للبعض بغياب نموذج اقتصادي محدّد بعينه، ومن جهة أخرى لا يمكن لفريق اقتصادي ذي توجه ليبرالي أن ينفذ سياسات اقتصادية ذات مضامين اجتماعية، أي عندما نأتي بفلسفة أو نهج اقتصادي تنموي تدخلي اجتماعي أن نطلب من فريق ليبرالي لا يؤمن بهذا التوجّه تطبيقه، بل نحتاج لفريق ذي توجّه تنموي اجتماعي يؤمن بدور الدولة والعدالة الاجتماعية لأنه يحدث اختلالاً، ومعظم القائمين على الحكومة الحالية بعيدون تماماً عن الفكر التنموي الاجتماعي، لذلك نتج عنه السياسات الخاطئة المرتبطة بالدعم، نحن بحاجة لإعادة النظر بكل فلسفة الدولة فيما يتعلق بالجانب الاقتصادي والاجتماعي، ولكن من خلال ما يضمن تحقيق الفعالية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية.
البعث