رأى أستاذ الاقتصاد الدكتور دريد درغام أن الدفع الإلكتروني أمر له شجون عند كثير من الناس، وأن الهم الأساسي اليوم للحكومة هو إيصاله لأوسع شريحة ممكنة أينما كانت، وتمكين الأفراد والشركات من الوصول الفعال والرخيص والمستدام إلى الخدمات والمنتجات المالية القادرة على تلبية احتياجاتهم من تبادلات ودفع وادخار وإقراض وتأمين، لافتاً إلى أن قطاع الأعمال يعاني من زمن وتكلفة وسحب ونقل وعد وكشف تزوير وتخزين الأوراق بسبب التضخم الكبير في سنوات الحرب.
واعتبر الدكتور درغام في محاضرة له ألقاها أمس بعنوان «الدفع الإلكتروني.. ملامح التحديات وآفاق قدرة قطاع الأعمال السوري على تبنيه»، أن الدفع الإلكتروني يلبي احتياجات الحكومة وليس احتياجات المواطن، إذ إن احتياجات الإقراض والادّخار والتأمين لا يتم تلبيتهم عبر الدفع الإلكتروني، وإنما يتم تلبية احتياج الدفع فقط وبشكل نسبي، مشيراً إلى وجود نقص في عدد المنافذ التقليدية المتاحة «فروع، مكاتب، معتمدين» للسحب والإيداع والتحويل وخصوصاً في القرى الكبيرة وبعض الأحياء في المدن، منتقداً عدم إمكانية تتبع الأداء وذلك لنقص المعطيات والبيانات.
ولفت درغام إلى تساؤل يطرح بشكل دائم عن سبب عدم نجاح الدفع الإلكتروني في سورية، معتبراً أن السبب الأساسي يتمثل في نقص القدرة الشرائية، فلا يمكن إقناع شخص ما بأن يتعامل بالدفع الإلكتروني إذا كان أجره الشهري لا يكفيه أكثر من أسبوعين فقط، مشيراً إلى وجود نفور من ذوي الدخل المحدود من الدفع الإلكتروني ورفض للادّخار بالمصارف بسبب التضخم وقيود السحب التي تختلف حسب القرارات التي تصدر بين حين وآخر، لذا فإن «الكاش» مثالي لهم لتنفيذ المشتريات وتجنب الضرائب.
ثقافة ضحلة
وفي سياق متصل، أكد درغام أن ثقافة الدفع الإلكتروني ستبقى حتماً ضحلة لعدة أسباب منها: عدم تمكن المودع من تغذية الرصيد أو التسديد في معظم المحلات، إضافة إلى أنه بالشكل الاعتيادي يترك المواطن كل أمواله في المصرف ويسدد منها حسب الحاجة، أما ما يحصل في سورية أن المواطن يغذي حسابه عندما يوجب عليه دفع الفاتورة فيترتب عليه تكاليف إضافية من أجور نقل للوصول إلى مراكز تغذية الحسابات وهذا يعني الوقوف على الطوابير، لافتاً إلى أن إجبار المواطنين على الدفع الإلكتروني يعني وجود عمولات على عمليات الإيداع والسحب والدفع، فمن خلال قراءة التقارير المالية للمصارف يتبيّن أن جلّ إيراداتها من العمولات، وهنا تسير الأمور بالعكس لأن المنطق يقول إن المصرف يجب أن يقوم بدوره والعمولات هي استثناء.
ويضاف إلى الأسباب التي تمنع من انتشار ثقافة الدفع الإلكتروني، قرارات حبس السيولة «سقف السحب وإيداع نصف قيمة بيع العقارات والسيارات، وتأمينات المنصة»، فهذه القرارات حسب الدكتور درغام، تزيد بشكل مصطنع أعداد الحسابات والسقوفات والإيداعات، إذ تشير الإحصائيات إلى ازدياد الإيداعات بالمصارف الخاصة من 1.3 تريليون ليرة عام 2020 إلى 3.1 تريليونات عام 2022، معتبراً أن هذه المعطيات تؤكد الحاجة إلى سنوات طويلة لتنظيف البيانات من التشويه، وذلك لمعرفة حقيقة توجه الاقتصاد السوري في الفترة القادمة.
وفي سياق متصل، أكد درغام وجود أسباب أخرى لتعثر الدفع الإلكتروني والشمول المالي منها الحصار والعقوبات الاقتصادية، لافتاً إلى أن غياب البنية المصرفية الجيدة والمحول الوطني، دفع بعض الدول الفقيرة للتسامح في غلبة شركات الجوال على المصارف في نشر الدفع الإلكتروني، ورأى أن ازدهار «الكاش» في شركات الحوالات المالية وتوقيع الاتفاقيات مع المصارف لتوسيع المنافذ، لا يعد دفعاً إلكترونياً وإنما هو تعزيز لـ«الكاش» بشكل أو بآخر، فشركات الحوالات صار لديها 400 فرع مقابل نحو 700 فرع ومكتب للمصارف، متابعاً: «فهل توجه سورية هو محولة وطنية ومحولات مصرفية، أم محولات للمصارف وشركات دفع تتكامل تدريجياً لحين ولادة المحول الوطني؟ وفي حال تكاملت تلك المحولات مع بعضها، فما دور المحول الوطني الذي سيبصر النور العام القادم ضمن مصرف سورية المركزي؟» متمنياً الحصول على توجهات معلنة في هذا الخصوص، فحالياً موجود محولات بالمصارف التجاري والعقاري والـ ATB الأهلي والبركة، وشركات بترا وفاتورة للدفع الإلكتروني.
وتحدّث درغام عن مشكلة البنية التحتية المتمثلة في الكهرباء والاتصالات والأمور اللوجستية بشكل عام، إذ يفترض بالشمول المالي أن يكون معمماً، لكن تباين البنية التحتية بين المناطق والشرائح يعوق انتشاره، أما ما يتعلق بالربط الإلكتروني بالنسبة للتجار، فإن كل الأمور مفهومة، إذ ساهمت التطبيقات والشبكات في تحسين التحصيل الضريبي «برامج محاسبية معتمدة وربط إلكتروني يسمح للتاجر بإرسال الفواتير دفعة واحدة عند عودة الاتصالات».
غموض القرارات
ولم تغب مشكلة غموض بعض القرارات والتعليمات عن محاور محاضرة الدكتور درغام، إذ حاول ذكر بعض هذه القرارات، منها: القرار رقم 493 لعام 2024، الذي ينص على أن سقف عمولة دفع أو شراء عبر الـPOS هو واحد بالمئة، لكنها ليست سقفاً لكل عمليات الدفع أو التحويل، فغياب المؤسسات المالية عن بعض المدن أو الأحياء تطبق عمولات باهظة من شركات الحوالات، فعمولة واحد بالمئة لا تفيد إلا من يحوّل أكثر من مليون ليرة خارج المناطق الشرقية، أما في المناطق الشرقية فهي لا تقل عن 1.5 بالمئة، متابعاً: «كما توجد مشكلة أخرى وهي أن شركات الجوال التي سمح لها بأن يكون لديها حساب إلكتروني في عام 2021، حيث طلب منها حينها حساب ضامن برصيد لا يقل عن 10 مليارات ليرة ويراجع كل 3 أشهر، لتقوم كل شركة بالتوزيع لموزعي الجملة ليقوموا بدورهم بالتوزيع للبقية، ثم تم تخفيض هذا الرصيد في عام 2022 إلى 5 مليارات ليرة، من دون معرفة الأسباب، فالمنطق يقول إن زيادة التعاملات تؤدي إلى زيادة الحساب الضامن وليس العكس».
كما ذكر درغام قرارات أخرى منها السماح بإنشاء حسابات إلكترونية بسقوف رصيد بدأت من 100 ألف ليرة في شهر نيسان من عام 2021 ثم زيدت بعام 2022 إلى 250 ألفاً ثم 350 ألفاً ثم 550 ألفاً، ثم ثبتت عند هذا الحد، معتبراً أن هذه السقوف ضحلة في ظل أسعار السلع والخدمات، وكان آخر هذه القرارات التي أدت إلى تعثر الدفع الإلكتروني والشمول المالي، هو قرار مجلس النقد 102 الذي صدر خلال الشهر الجاري، المتعلق بالسماح لمن لديه سجل تجاري التعاقد مع أي مصرف بعد رهن 15 مليون ليرة ليكون معتمد إيداع حتى 750 ألف ليرة، وسحب حتى 500 ألف لليوم الواحد، فكيف يمكن إقناع المواطن بتغذية الحساب مع ندرة منافذ الدفع والسحب».
ومن جهة أخرى، تحدث درغام عن الواقع، إذ أعلن رسمياً في نهاية شهر حزيران الماضي عن وجود 1.46 مليون حساب إلكتروني للتسديد، وبالمقارنة مع مشتركي الخليوي فقط البالغ عددهم 16 مليون مشترك، وباقي مشتركي الكهرباء وغير ذلك، يتبيّن أن هذا الرقم قليل، فيما وصل عدد الحسابات الإلكترونية المفتوحة للتجار نحو 11 ألف حساب، معتبراً أنه في حال بقي التسديد الإلكتروني إجبارياً بمعظمه وليس طواعية، فستبقى دوامة إعادة توزيع أدوار التعامل بالأوراق النقدية موجودة.
واعتبر درغام أن زيادة الحسابات ولو بشكل قسري بغية تسديد الفواتير، يعني المزيد من الودائع المجانية، وانخفاض التكلفة المرجحة على المصارف، متسائلاً عن سبب عدم تخفيض المصارف لفوائد القروض.
التحول إلى الدعم النقدي
وتطرّق درغام إلى موضوع التحول الحالي للدعم النقدي الذي يعد الشغل الشاغل للمواطنين، لكونه مرهقاً لهم، مقترحاً عدة أمور للوصول إلى تحويل أسهل لمستحقات الدفع إلكترونياً، فمعطيات الدعم بكاملها موجودة لدى منظومة البطاقة الذكية في وزارة النفط، وتستخدمها وزارة التجارة وتديرها وزارة الاتصالات، وبالتالي يمكن لمستحق الدعم النقدي من منزله أن يقوم بكل الإجراءات المطلوبة منه، فيصرح المدعوم مع جوال ذكي عبر تطبيق وين، أو عبر USSD للجوالات القديمة، فإذا كان لديه حساب أو بطاقة، يكتب رقم حسابه وفق نموذج مصرفه، ويحدد الفرع المصرفي الملائم لفتح حساب في حال لم يكن لديه، وتمنح فترة شهر فقط للتصريح، ومن لا يلتزم يفتح له حساب بأقرب فرع لعنوانه، وتفتح في نهاية الشهر بالمعطيات المجمّعة آلياً كل الحسابات مجاناً، ويتعرف على رقم حسابه الجديد من التطبيق ذاته.
واقترح درغام أيضاً أن تدير منظومة البطاقة الذكية الدعم النقدي، بحيث تحول مبالغ الدعم إلى حسابات متزامنة أو على المنظومة، وسيستفيد المدعمون من إمكانية سحب الكاش أو شراء المواد المدعومة مباشرة من نقاط البيع الموجودة سلفاً في الجهات المذكورة المنتشرة في كل المدن والقرى الكبيرة نسبياً، وبذلك ستتخلص الجهات الموزعة للمواد المدعومة «محطات الوقود والمخابز والسورية للتجارة» من الأوراق النقدية التي ستشكل عبئاً في التعامل والنقل اليومي إلى المصرف.
شمول مالي
ومن جهة أخرى، طرح درغام مقترحاً للشمول المالي للدفع الإلكتروني، ففي سورية يوجد أكثر من 16 مليون جوال نحو 85 بالمئة منها أجهزة ذكية، فيمكن الاستفادة من ذلك باعتماد التطبيقات البرمجية والتعامل مع QR CODE والذي يعد أكفأ وأرخص من نقاط البيع والصرافات الآلية، فإن وجدت الكهرباء والاتصالات ووجدت نقطة البيع يمكن توليد الرمز لكل عملية بيع بشكل آني وتسديدها من التطبيق فوراً، وإن غابت الكهرباء والاتصال أو تقاعس التاجر يمكن إجبار جميع التجار على وضع QR CODE على الأبواب بشكل بارز بالمحلات، وفي كلتا الحالتين يتم إثبات الدفع بين التاجر والمشتري ويتحقق ربط فوري مع هيئة الضرائب عن طريق المحولات لجميع الفواتير أو بدءاً من عتبة معينة.
ورأى درغام وجود حاجة لخطة خمسية متكاملة تعلن بها الأولويات ومنها: سلاسة الدفع الإلكتروني مع بنية ضريبية مواكبة ومشجعة على الإفصاح، وتعزيز رسملة مؤسسات المال وحصة اليد العاملة من الربح وخفض عمولات الدفع وفوائد الإقراض مع زيادة الحسابات الجارية المجانية اللازمة للدفع الإلكتروني، معتبراً أن انتشار قنوات الدفع في منافذ البيع يوفر مؤشرات عن نشاط مجتمع الأعمال ويمكّن الموردين والمقرضين من معرفة القدرة على التسديد، مقترحاً أيضاً اعتماد شجرة محاسبية لكل قطاع رئيسي، الأمر الذي سيسمح بتحليل البيانات المالية الضخمة بما في ذلك أهم عوامل الإنتاج كالوقود وغيرها، ما يسهم في تخطيط أسلم للمستقبل، مؤكداً أن الإفصاحات الدورية وخاصة من المؤسسات المالية هو حق للناس بالأخص الباحثين والصحفيين.
الوطن