سباق أولويات بين «العلم واللقمة».. المكدوس يتصدر واجهة الجدل حول المطلوب والممكن

تنهمك معظم الأسر السورية، بدءاً من مطلع شهر أيلول حتى تشرين الأول، في الانغماس بإعداد كميات من «المكدوس»، الذي يعد رمزاً غذائياً خالصاً يتربع في خزائن كل منزل، ويعرف بشهرته الواسعة كواحد من أهم الأطعمة الشعبية، بل يدخل في صميم السلة الغذائية للشتاء في سورية، ورغم التحديات البارزة التي تواجهها معظم الأسر السورية، نتيجة الظروف الاقتصادية المتردية، إلا أن الكثير من الأسر تبذل جهدها لتحضيره ولو بكميات قليلة، لكن ما يزيد الأمور تعقيداً، هو تزامن موسم تحضير المكدوس مع بداية العام الدراسي الجديد وما يتطلبه من تكاليف لإعداد المستلزمات المدرسية، فبينما يحاول الآباء تأمين الاحتياجات الدراسية الأساسية لأبنائهم، يتحتم عليهم أيضاً التركيز على التحضيرات التقليدية، لتصبح المعضلة أكثر حدة، فكيف يمكن لتلك العوائل المرهقة، الموازنة بين المحافظة على التقاليد ومواجهة الأعباء الجديدة؟

الأسر أمام خيارين إما العلم أو محاولة بعض الطلاب العمل إلى جانب دراستهم في سبيل تأمين أعباء دراستهم لأنه لا خيار آخر أمامهم 

(أم عمار) ربة منزل تقول: لدي ثلاثة أطفال في المدارس، يجب علينا تأمين مستلزماتهم المدرسية الضرورية، من حقائب ودفاتر وأحذية و”صدريات” وغيرها، أما بالنسبة للمكدوس فلا أفكر بتحضيره، لكون والدتي وحماتي تقومان بإرسال مؤونة المكدوس لنا، لمعرفتهما بأوضاعنا الصعبة، وحسب المثل: “على لساني ولا تنساني”.

أما (أم إسماعيل) فتقول إنها قامت هي وزوجها بسحب سلفة وقرض في سبيل سد المستلزمات الدراسية وفي الوقت ذاته لتحضير مؤونة المكدوس.

خبير اقتصادي: تتجاوز تكلفة التحضير من مستلزمات مدرسية للصف الابتدائي مليون ليرة والإعدادي مليوني ليرة

تدابير

من جهته كشف الخبير الاقتصادي فادي حمد من خلال حديثه لـ”تشرين” أنه مع التقدم التقني الحاصل، الذي يتعارض مع المقومات الأساسية للتحصيل الدراسي، يزداد العبء بالتضخم الحاصل عن السنوات السابقة بشكل ملحوظ، حيث إن تكلفة التحضير للتلميذ في المرحلة الابتدائية تفوق مليون ليرة سورية، بينما الإعدادي فاقت مليوني ليرة لتأمين الدفاتر واللباس ولوازم المدرسة، ما ترك ثقلاً كبيراً على أسرة مكونة من شخص واحد، فكيف بأسرة مكونة من 5 أفراد، ليجد المواطن نفسه يقف أمام مفترق طرق، أحلاهما مر.. الجهل أو العوز.

تضارب

وأشار حمد إلى أنه كما كل عام، يتضارب توقيت تأمين المؤونة مع التحضير لافتتاح المدارس، وعليه أصبح المواطن مخيراً بالاستغناء عن أحد الأمرين، لكونه لا يقبل الجهل ويسعى للتعلم.. ولكونه لا يقبل الحاجة يسعى لتموين بعض الأشياء لتمنع عنه العوز في فصل الشتاء القارص.

بائع خضار: تكلفة مؤونة «المكدوس» لعائلة مكونة من 3 أشخاص لـ30 كيلوغراماً فقط بحدود 450 ألف ليرة

“تشرين” أجرت جولة في سوق الألبسة والخضار للتقصي عن الأسعار، حيث بلغ سعر الحقيبة الدراسية بين 60-250 ألف ليرة حسب حجمها، أما الصدرية 75- 200 ألف حسب نوعية الأقمشة، والبوط المدرسي 70-300 ألف ليرة تبعاً للجودة، أما القرطاسية للطالب الواحد 250 ألف ليرة من دفاتر وتجليد وأقلام وغيرها من الملحقات، إن لم نقل أكثر.

أما مستلزمات المكدوس، فبلغ سعر الفليفلة الحمراء 10 آلاف ليرة للكيلو الواحد، والباذنجان 3500، وكيلو الجوز البلدي 160 ألفاً، وليتر الزيت الواحد “نباتي” 25 ألفاً، والثوم 75 ألفاً، لتكون تكلفة المكدوس وبحسبة بسيطة لعائلة مكونة من 3 أشخاص، ووفق رأي العم أبو أحمد (بائع خضار)، بحدود 450 ألف ليرة لما يعادل 30 كغ.

توازن

وأوضح الخبير الاقتصادي أنه في هذه المرحلة من السنة، من الطبيعي تحقيق توازن في التفكير وليست المصاريف، لكن كيف يمكن أن يتحقق التوازن عند الأسر، من عائدات لا يمكنها أن تلبي أبسط الحاجات الأساسية، فعندما تكون المدخلات عشرة والمخرجات مئة، لا يمكن أن ترجح كفة الميزان أبداً.

تفادي التضارب

هنا أشار حمد إلى أنه لا يمكن للأسر تفادي هذا التضارب والضغوط إلا عن طريق التقشف القاسي، الذي يعود على المواطن بالضرر والضغط المتراكم والعبء النفسي، لأنه لا توجد مصادر بديلة لمجاراة التضخم، سوى العمل بأكثر من مجال لتحقيق شيء من التكافؤ لتأمين المستلزمات الأساسية، أو رهن ما تبقى من أملاكه مقابل استمراريته لفترة قصيرة ومؤقتة لتعود الكرة مرة أخرى في السنوات التي تليها.

إنفاق متزايد

كما بيّن حمد أن المدارس الخاصة «تخصخصت» أكثر من الماضي، فأصبحت مخصصة لرؤوس الأموال والتجار وكبار الشخصيات فقط، ولا تشمل 5 بالمئة من المجتمع المحلي، ومن استطاع إليها سبيلاً، مضيفاً: ولذلك من المتوقع التوجه للمدارس العامة بشكل كبير، بسبب ضيق الحال وقلة الحيلة، وهنا نعود للواقع بوجود 60 طالباً في قاعة تدريسية وهو أمر صعب، أضف إلى ذلك قلة كوادر التدريس، وتدني رواتب المدرسين.. كل ذلك يضع الأسر في دوامة اقتصادية مخيفة.

عوامل اقتصادية

كيف يمكن أن تؤثر العوامل الاقتصادية مجتمعة في قرار الأسر بشأن التعليم هذا العام، سؤال وجهته ” تشرين”، ليجيب حمد بأن الأسر أمام خيارين، إما العلم أو محاولة بعض الطلاب العمل إلى جانب دراستهم في سبيل تأمين أعباء دراستهم، لأنه لا خيار آخر أمامهم.

العلم أم لقمة العيش؟

السعي للعلم والمعرفة حتى لو كان ذلك على حساب لقمة العيش، هذا ما يوصي به الخبير الاقتصادي، ليضيف: يبقى الأمل معقوداً على الجهات المختصة لاتخاذ خطوات دعم واضحة للمواطنين، في ظل تعدد الفعاليات والمعارض التي تروج لأسعار مخفضة بهدف التخفيف من العبء على الأهالي.

ويبقى السؤال هنا: هل ستدخل هذه المبادرات الأمل إلى حياة الأسر، أم ستظل الأزمة قائمة؟

في النهاية تبقى نداءات الأمهات والآباء تجوب الأفق، باحثة عن مخرج من هذه المعاناة، وسعي لا ينقطع نحو الاستمرار ورسم مستقبل أفضل عبر التعليم، والعيش الكريم مهما كانت العواقب.

شارك