تتألف السوق السوداء عموماً كما في نظيرتها من الأسواق الحكومية من العناصر الأساسية لأي سوق، من مستهلكين وبائعين وبضائع، إلا أن هذه السوق تختلف في أهدافها وغايتها عن الأسواق الحكومية، حيث يبقى الهدف الأول والأخير في هذه السوق، هو تحرير التجارة من قيودها الاقتصادية، من دون أن يكون لها أي قيود أو ضوابط، ويمكننا القول إن السوق السوداء أقدم في وجودها من الأسواق الحكومية، حيث إنها تمثل أول أشكال التجارة الجماعية، لكن ليس أول أشكال التجارة المنظمة، حيث ظهرت الأسواق الحكومية المنظمة فيما بعد لتنهي ما يتعرض له المشتركون في هذه الأسواق الحرة من احتكار واستغلال وجنوح وغيرها من إشكاليات ناتجة عن الفوضى التجارية، فصار وجود الأسواق المنظمة واجباً لحماية عناصر السوق فيما بعد.
آفة اقتصادية ناشئة
على الساحة الوطنية تعد السوق السوداء القائمة حالياً، هي آفة اقتصادية ناشئة عن الزمن الطويل للحرب والسياسات الاقتصادية المتبعة ضد بلادنا، حيث تعد هذه العناصر الظرفية من أهم أسباب تغذية السوق السوداء عالمياً ضمن أي دولة، ويمكننا القول اليوم إن السوق المحلية السورية باتت تعاني من عزوف كثير من المواطنين عن المشاركة فيها، وتوجه نشاطهم نحو الاستثمار السريع للمواد الأساسية في السوق السوداء التي تكاد تبرز أكثر فأكثر إلى ضوء العيان يوماً بعد يوم، حيث بات يعتمدها المواطنون الذين يمارسون أنشطتهم من دون تراخيص ويدخلون أيضاً إلى دائرة الأنشطة المشبوهة في التعامل داخل الأسواق السوداء، والحقيقة هي أن علماء الاجتماع الاقتصاديين يجمعون على أنه من غير الممكن ضبط سلوك الأفراد حينما يتعلق الأمر بالمنافع المادية، ويمكننا التعبير عن ذلك الأمر عن طريق عرض أحد تحديات الوعي الاجتماعي الاقتصادي في العالم المعاصر.
باتت السوق المحلية تعاني من عزوف كثير من المواطنين عن المشاركة فيها، وتوجه نشاطهم نحو الاستثمار السريع للمواد الأساسية في السوق السوداء
إشكالية
لم تتمكن الحكومات على مر التاريخ من تقليص حاجة المستهلكين إلى السوق السوداء، حيث دائماً ما تنشط هذه الأسواق في فترات التوتر والتصعيد الحكومي، ما يجعل الأسواق الوطنية في أي دولة أكثر هشاشة من الأسواق السوداء وذلك لارتباطها بكثير من الاعتبارات القانونية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، بينما تقوم السوق السوداء على مبدأ الحاجة الماسة للمنتج واللعب على عامل الوقت، حيث توجد البضائع المطلوبة للأفراد ويتم توزيعها بطريقة أكثر ملاءمة منها، عن طريق توزيعها على مبدأ العمل الحكومي، فيتجه تيار من المحللين الاقتصاديين في الوقت الحالي إلى دعم وجود الأسواق السوداء في العالم، ويستندون بذلك إلى أسباب رئيسية.. وهي أن هناك بعض المنافع الشعبية والمالية لطبقة معينة أو أخرى تأتي ضمن خدمات هذه السوق، مثل أصحاب الدخول المنخفضة، حيث يتجه هؤلاء الأفراد إلى استخدام خدمات السوق السوداء، خصوصاً عندما تعوق التشريعات الحكومية، التنافسية التجارية النزيهة، بلا سبب مقنع، مثل منع استيراد صنف معين من السلع الأساسية غير الموجودة في الأسواق الوطنية (كالإلكترونيات)، فمن غير المجدي محاربة صنف أجنبي أساسي لحياة الأفراد للدفاع عن صنف وطني غير موجود أساساً، أما عندما تكون الأصناف الأجنبية مناوئة للمنتجات الوطنية ومنافسة لها، فقد أظهرت الاستطلاعات الحديثة أن الشعوب تتقبل سياسة حكوماتها بحظر الاستيراد على السلع المنافسة، لاسيما أن تدفق هذه المواد إلى أسواقها سيضر بمصالحها هي ثانياً وبلدانها أولاً.
عندما تكون الأصناف الأجنبية مناوئة للمنتجات الوطنية ومنافسة لها تتقبل الشعوب سياسة حكوماتها بحظر الاستيراد على السلع المنافسة لاسيما أن تدفق هذه المواد إلى أسواقها سيضر بمصالحها هي ثانياً وبلدانها أولاً
كسر الأعراف الأدبية
أما السبب الثاني فيعود لظهور مشكلة تقنين الموارد المحلية في الأزمات، فلا يكون في مقدور الطبقة الشعبية تأمين احتياجاتها من الأساسيات، لاسيما إن كانت هذه الحاجة ملحة لمواد لا يمكن الاستغناء عنها، كالخبز أو المحروقات أو الطاقة، حيث يعتبر الخبراء أن هذه السوق تؤمن لهم احتياجاتهم الأساسية ضمن فترة التقنين على هذه المواد، وتضطر الشعوب في البلدان النامية لكسر الأعراف الأدبية بينها وبين حكوماتها في سبيل تأمين احتياجاتها الأساسية.
إلا أن بعض التجارب تظهر أيضاً وقوف الشعوب مع أسواقها الوطنية حينما تكون هذه الأسواق أمام تحديات خارجية، فالشعوب في البلدان الصناعية الكبيرة وحتى الصناعية البسيطة، يوجد لديها وعي اقتصادي بأهمية دعم المنتج الوطني وأهمية اتباع سياسات التقنين الحكومي في بعض المواد الأساسية، لذلك تقف مع الأسواق الحكومية إذا ما لاحظت صراعاً لمنتجها الوطني مع منتجات أجنبية، كما في الصين حينما أقدم الصينيون على منع استقبال البضائع الأمريكية والأوروبية في متاجرهم، لمعرفتهم أن البضائع الوطنية قادرة على منافسة هذه البضائع، وأن هناك ضرورة للأمن الاقتصادي الداخلي والخارجي باتباع سياسة الأسواق الحكومية ولو كان هذا الأمر على حساب رفاهيتهم الشخصية.
بعض التجارب تظهر وقوف الشعوب مع أسواقها الوطنية حينما تكون هذه الأسواق أمام تحديات خارجية
سياسة توطين الأموال
على الساحة الداخلية كانت مسؤولية إدارة العلاقات بين المؤسسات الأجنبية والحكومية في بلادنا تتبع لقانون الاستثمار رقم ٧ لعام ٢٠١٠، الذي جاء جامعاً في هيكله القانوني لكل بنود العمل الأجنبي على أرضنا، إلا أنه لم يكن مانعاً وانتقائياً في أنواع العمل الأجنبي المطلوب، كما كان ناقصاً من البروتوكولات والمواد القانونية التي تعنى بدعم الأسواق الوطنية لدى الشركات الأجنبية، وعلى العموم تتجه الحكومات الأجنبية اليوم إلى اتباع سياسة توطين رؤوس الأموال الأجنبية، الذي هو مصطلح تجاري حديث يعنى بإعادة دمج رؤوس الأموال العامة والأجنبية ضمن الأسواق الحكومية متبعاً طريقة زيادة المشاركة المحلية في العمل لدى هذه الشركات وتوطين الموظفين المحليين للحكومة المستضيفة، داخل الهيكل الإداري للشركات والمؤسسات الأجنبية، إضافة إلى شراء حصص وتعزيز القدرة إلى الوصول نحو مواطن الإنتاج لدى الشركة الأجنبية، حيث تميل سياسات الهجرة المطبقة حديثاً في العالم إلى استقطاب الشركات الأجنبية على أرضها بل حتى الجنسيات الأجنبية من الدول المجاورة، بهدف دمج هذه العناصر الأجنبية في سوقها الوطنية ما يوفر سوقا أكثر تنوعاً، وفي التجربة فقد ثبت في كثير من الحالات صعوبة حصول هذا الدمج، حيث تخشى بعض الدول من إقحام نفسها مع المنافسين الأجانب على أرضها، ما يضعف أسواقها الحكومية.
على العموم تتجه الحكومات الأجنبية اليوم إلى اتباع سياسة توطين رؤوس الأموال الأجنبية.. لكن تخشى بعضها من إقحام نفسها مع المنافسين الأجانب على أرضها ما يضعف أسواقها الحكومية
استيعاب
إلا أن هناك أيضاً الكثير من التجارب التي نجحت فيها السياسات الحكومية باستيعاب الأطراف الأجنبية على أرضها واحتوائها لمصلحة الأسواق الوطنية، لاسيما الشركات القادمة من دول الجوار والتي تشكل بضائعها عادة النسبة الأكبر من الموجودات ضمن السوق السوداء، حيث تعتمد استراتيجية التوطين بشكل عام، على مبدأ أن تضارب السوق الحكومية بمنتجات الشركات الموطّنة، على منتجات الأسواق السوداء، التي يرى المواطنون، فيما بعد، عدم جدوى الخوض في أنشطتها المشبوهة مادامت هذه البضائع الأجنبية قد صارت ضمن الأسواق المحلية بطبيعة الأحوال.
وطبعاً هناك أمثلة كثير معتمدة ومطبقة على أرض الواقع، فنذكر منها وجود قانون التوطين المطبق في دول الخليج حالياً، الذي أجبر الشركات الأجنبية على استقبال عمال وموظفين وطنيين بالشركة لتحصل بذلك على ترخيصها، والأمر نفسه تتبعه أوروبا اليوم، بل من الجدير بالذكر أنه في القانون السوري موضوع توطين الموظفين في الشركات الأجنبية كان مطبقاً قبل دول الخليج العربي، إلا أنه كان معمولاً به لحماية الأيدي العاملة الوطنية وليس لتوطين رؤوس الأموال.
التخزين السحابي
تتجه الدول الحديثة حالياً إلى تيار جديد من خلال عمليات تحديد الأسعار ودراسة السوق المحلية، حيث صارت دراسة السوق والتسوق تحصل من خلال المنظومة الرقمية الحديثة، فيدخل العالم اليوم في مجال تحليل البيانات، الذي يعتمد بشكل عام على تخزين قدر كبير من بيانات التجار والعملاء وعن أنشطتهم وخدماتهم وأيضاً عن بضائعهم وأسعارها، وهو بذلك يعتمد على مبدأ توضيح الأسعار والبيانات للمستهلكين على نفقة الحكومة، حيث تصبح الحكومة مسؤولة في هذا الجيل من الأسواق الرقمية إلى تأمين حاجة المستهلكين والتجار، عن رفع بياناتهم على المخزون السحابي، أو منظومة السوق الإلكترونية، حيث يتم نشر الأسعار عن طريق الحكومة، ويكون الدفع عن طريق البطاقات المصرفية فتراقب الحكومة بذلك مقدار الإنفاق الصحيح للمواطنين وتستوفي الرسوم الحقيقية على السلع، وتقضي بذلك على ظاهرة التسعير الوهمي، وتعتمد على إجراءات التحليلات المالية والبيانية لهذه المعطيات، وهو أمر من الصعب تحقيقه في ظل غياب منظومة تقنية متكاملة، فمازالت منظومة العمل السوري تقوم على مبدأ تخزين بيانات العملاء على ذواكر الحواسيب أو الأجهزة، بينما تعتمد منظومة العمل الرقمية في الشمول المالي على مبادئ التخزين السحابي أو التخزين على الخادم “the server”، كما في الشركات الكبيرة أو المصارف، فيحتاج مبدأ الشمول المالي إلى التطوير وإجراءات التحليل والتغييرات الآنية والمستمرة على قاعدة بيانات العملاء، وهو أمر صعب جداً في منظومة تقنية بطيئة الحركة، ومن الصعب الخوض في تفاصيل تطبيق الشمول المالي، من دون توافر هذه التقنية الحديثة، لا سيما في ظل العقوبات المفروضة، ولكن ذلك فقط ضمن الوقت الراهن حيث تحدث المنظومة التقانية تطورات متواصلة على مدى الأعوام الماضية، ومن المتوقع أن تتخطى هذه الثورة التقانية الحواجز التكنولوجيا المادية التي ترتبط بتوفر العتاد الكبير والمكلف لإحراز هذه القفزة النوعية في توفير خدمات السوق للمستهلكين، حيث ستتمكن هذه الأسواق من تحديد وتتبع حركة المواد والأموال في السوق بطريقة أكثر ملاءمة للعميل والتاجر والحكومة التي ستصبح قادرة على تقليص قاعدة السوق السوداء والأنشطة غير المنظمة لمصلحة أسواقها الحكومية.
تصبح الحكومة مسؤولة في هذا الجيل من الأسواق الرقمية عن تأمين حاجة المستهلكين والتجار من خلال رفع بياناتهم على المخزون السحابي أو منظومة السوق الإلكترونية
مبدأ البيوع المرئية
يمكننا القول عموماً إن أي اتفاق تجاري بين طرفين يحكمه مبدأ الإيجاب والقبول هو عقد تجاري ساري المفعول، وبناءً عليه لا يمكن أن تكون الحكومة دائماً طرفاً متدخلاً في كل عقود البيع بين المواطنين، والحقيقة أن أي اتفاق أو عقد تجاري لا تكون الحكومة طرفاً فيه هو عقد قابل لأن يخضع لقوانين السوق السوداء، بل إن أي عملية مقايضة أو تبادل غير مقيدة لدى الدوائر الحكومية، هي أيضاً خاضعة احتمالياً لأن تقع ضمن دائرة تعاملات السوق السوداء، لذلك وبناءً عليه من المستحيل أن تكون الحكومة طرفاً متدخلاً في كل أنواع الاتفاق بين المواطنين، لأن ذلك سيكون بلا جدوى اقتصادية للحكومة في كثير من الأحوال، لذلك وطالما أن هناك بيوعاً مخفية عن الحكومة، فستظل هناك دائماً سوق سوداء، وقد تمكنت الأسواق الحكومية الحديثة من مواجهة هذا التحدي من خلال وضع مشروعات جدوى اقتصادية لنوعية المواد التي من المطلوب فرض الرقابة عليها أو المواد التي تعاني من التقنين، فيضطر التاجر والمستهلك في هذه الأحوال لاعتماد مبدأ العقد المرئي على هذه المواد تحديداً ونوعاً، فيسمح ذلك للسوق السوداء بأن تبقى نشطة في كل المنتجات إلا المنتجات التي ينطبق عليها هذا التقنين الحكومي.. فيحد ذلك من الاستغلال التجاري عند تجار السوق السوداء، حيث يضطر المواطنون لاعتماد العقود المرئية في المواد الخاضعة للتقنين الحكومي، فلا تعود هذه البضائع أداة ضغط على المستهلكين أو أداة لتحقيق الثراء السريع، فتفقد السوق السوداء بذلك الجدوى منها.
تمكنت الأسواق الحكومية الحديثة من مواجهة تحدي السوق السوداء من خلال وضع مشروعات جدوى اقتصادية لنوعية المواد التي من المطلوب فرض الرقابة عليها أو المواد التي تعاني من التقنين
على العموم يمكننا اليوم أن نرى المشهد العام للأسواق العالمية في معركتها ضد الأسواق السوداء، حيث استيقظ العالم على وقع تطور المسائل الإنسانية والبشرية التي بدأت تتصدر إليه عن طريق الأسواق السوداء، فالاقتصاد العالمي بدأ يعترف بحق تجارة الماريغوانا وحق شرعية الأموال التي تخرج عن (الملاهي الليلية والكازينوهات)، إضافة إلى دخول الكثير من أصحاب السوابق بالجرائم الاقتصادية ضمن أسواقهم الحكومية كما لو أنهم يعملون بطريقة منظمة، فكان لا بد للعالم أن يستيقظ على صدى هذه التقلبات ويبدأ بخطة عمله الجديدة ليمنع انتشار هذه التجارة الضارة على حدوده وضمن أسواقه المحلية، كما نعاني أيضاً نحن في سوقنا المحلية من الأضرار المذكورة سابقاً، حيث تركت الحرب آثارها على أسواقنا الوطنية، وأعطت زمام المبادرة الأكبر للأسواق السوداء على الأسواق الوطنية، فبات من الضروري الاستيقاظ على وقع الحلول التي ستنهي حاجة المواطنين للسوق السوداء وتعيد للشعب ثقته بأسواقه الحكومية من جديد.
تشرين