رؤية لتعزيز الاقتصاد السوري.. دور الحكومة من التدخل إلى الدعم الاستراتيجي والأولوية حل مشكلة المشاريع المتعثرة

“في ظل القرار الحكومي بالتحوّل إلى اقتصاد السوق الحر، هل تتبنى الحكومة إستراتيجية تدعم تحسين البنية التحتية، وتقدّم تسهيلات مالية، وتعزز الصادرات، والاستثمار في الابتكار والتدريب؟.
بعض الخبراء يعرضون رؤيتهم، ويقولون: إنه يمكن لسوريا تحقيق تحوُّل اقتصادي مستدام يعزز الإنتاج المحلي، ويفتح أبواب المنافسة العالمية”.
الجزء الثاني
تتابع صحيفة الثورة في عددها اليوم الجزءَ الثاني من ملفّ الصناعة السورية الذي فتحته يوم أمس، وتستضيف: الدكتور عبد المعين مفتاح- الخبير والاستشاري في الإدارة والاقتصاد وإعادة هيكلة الشركات، والمختص بالإدارة العامة والتنفيذية.. الدكتور المهندس ياسر أكريّم- عضو مجلس إدارة غرفة تجارة دمشق.


أربعة محاور رئيسية
البداية مع الدكتور مفتاح الذي أكد أن على الحكومة السورية التحوّل من التدخّل المباشر في الاقتصاد إلى دور الداعم الاستراتيجي الذي يهيّئ بيئة تنافسية.
وحين سألناه: كيف يمكن تحقيق ذلك، قال: يمكن تحقيق ذلك من خلال أربعة محاور رئيسية، هي:
تطوير البنية التحتيّة
أوّلاً: تطوير البنية التحتية لتعزيز الصناعة، ويتضمن ذلك ما يلي: تحسين قطاع الطاقة، وتحديث شبكات الكهرباء وتأمين الوقود والغاز بأسعار مناسبة للصناعيين، تعزيز النقل واللوجستيات من خلال بناء موانئ حديثة، وطرق سريعة، وسكك حديدية لتقليل تكاليف النقل، إطلاق مدن صناعية متطورة، وتقديم حوافز استثمارية وتسهيلات ضريبية لجذب المستثمرين، وكذلك تحرير السيولة النقدية، وإلغاء القيود على السيولة التي تؤدي إلى ركود صناعي وانعدام الثقة في البنوك.
حوافز وتسهيلات مالية
ثانياً: تقديم الحوافز والتسهيلات المالية، وفي ذلك يرى د. مفتاح أن تحفيز الاستثمار الصناعي، يفرض على الحكومة القيام بما يلي: توفير التمويل الميسّر، تقديم قروض بفوائد منخفضة للمصانع التي تستثمر في التكنولوجيا، خفض الضرائب والجمارك لتسهيل استيراد المعدات والمواد الأولية لدعم الإنتاج، وتعزيز الشراكة بين القطاعين العام والخاص، والاستثمار في مشاريع كبرى بالتعاون مع القطاع الخاص لدفع عجلة التنمية.
دعم الصادرات
ثالثاً: دعم الصادرات والصناعة التنافسية.. وفي إطار ذلك بين د. مفتاح أنه لجعل المنتجات السورية أكثر قدرة على المنافسة عالمياً، يمكن اتباع الآتي: توسيع الأسواق التصديرية، وتوقيع اتفاقيات تجارية مع الدول الصديقة لفتح أسواق جديدة، والترويج للمنتجات السورية عالمياً، ودعم الشركات السورية في المعارض الدولية، وإطلاق حملات تسويقية، تحفيز المصدرين بتقديم مكافآت مالية للشركات التي تحقق معايير الجودة العالمية، وإلغاء الضرائب التصديرية.
الاستثمار في الابتكار
رابعاً: الاستثمار في الابتكار والتدريب المهني، ويتابع د. مفتاح أنه لضمان استدامة النمو الصناعي، من الضروري القيام بالآتي: تعزيز البحث والتطوير الصناعي، إنشاء مراكز أبحاث تدعم التكنولوجيا المحلية، تطوير برامج التدريب المهني، التعاون مع الجامعات والمعاهد لإعداد كوادر صناعية مؤهلة، تسهيل نقل التكنولوجيا، وربط الصناعيين بمزودي التكنولوجيا العالميين لتعزيز الإنتاجية، صناعاتٌ لها الأولوية.
وعن الصناعات التي يجب أن تُعطى الأولوية في سوريا، قال: دعنا نقسمها كما يلي:
أولًا: الصناعات الضرورية محلياً، هي: الصناعات الغذائية، المهمة جداً لتعزيز الأمن الغذائي وتقليل الاعتماد على الاستيراد، الصناعات الدوائية والمستلزمات الطبية لضمان توفر الأدوية بأسعار مناسبة، مواد البناء، مثل الإسمنت والحديد والزجاج لدعم مشاريع إعادة الإعمار، الصناعات البتروكيماوية، وهي ضرورية لإنتاج البلاستيك والأسمدة والاستفادة من الموارد الطبيعية، النسيج والملابس، اعتماداً على القطن السوري عالي الجودة.
ثانياً: الصناعات القابلة للمنافسة عالمياً: الصناعات الزراعية التحويلية، مثل زيت الزيتون والفواكه المجففة، الصناعات الدوائية بفضل جودتها وأسعارها التنافسية، الصناعات النسيجية، مع ضرورة تحديث تقنيات الإنتاج لمنافسة تركيا والصين، الصناعات التكنولوجية الخفيفة، مثل البرمجيات والتطبيقات الذكية، الصناعات الحرفية والتراثية، مثل الفسيفساء والنحاسيات التي تحظى بطلب عالمي.
أكريّم: كنا محطّ أنظار دول الجوار
كان التركيز كبيراً – من عضو مجلس إدارة غرفة تجارة دمشق د. م. ياسر أكريّم، على منح القروض التحفيزية، ودراسات الجدوى، ومنع الهدر، والتسويق.. الخ.


وفي البداية أكّد أن الاقتصاد الحر قادم لا محالة، لافتاً إلى أن سوريا كانت قبل حوالى ستين عاماً سيدة النظام الاقتصادي الحر بالمنطقة، وكانت محط أنظار دول الجوار في كثير من الصناعات، وخاصة الخيط والألبسة والقطن والصوف، وبعض الصناعات الغذائية التي كانت تتفوق بها، لكن الترهل أصاب صناعتنا نتيجة التضييق المالي والضريبي.

نحن شعب صناعي مبدع
وحول إمكانية العودة إلى المنافسة والتفوق مع التحول إلى السوق الحر، أكّد أن ذلك ممكن جداً، وسيحصل بالتأكيد، لأن الشعب السوري شعب صناعي مبدع من الدرجة الأولى، يملك الخبرات، وعنده دقة وجودة وإتقان في العمل.
وشدّد على ضرورة تدقيق الصناعي بكلفة منتجه ومنع الهدر، وأن يضع سعراً منطقياً منافساً، وعليه التركيز على الجودة أيضاً، وعليه أن يولي دراسة الجدوى أهمية قصوى، فهي من العوامل الأساسية التي تضمن للصناعي أن يكون الأول أو من الأوائل في منطقته أو في العالم.
اقتراح
وتابع د. أكريّم: للتخفيف من تكلفة المنتج وتهيئة السلعة للمنافسة أقترحُ على الحكومة عقد اتفاقات تجارية خارجية لمساعدة الصناعيين، فالصين- مثلاً- تأتي بالمواد الأولية الداخلة في الصناعة من خلال صفقات بكميات كبيرة وبسعر منخفض، وتعطيها للصناعيين بسعر ثابت طوال العام، ويحصل ذلك من خلال اتفاقات بتثبيت السعر لمدة سنة.
ومعلوم أنك حين تشتري كميات كبيرة من أي مادّة فإنك تحصل عليها بأسعار مخفضة، فمن يشتري طناً من الخيط غير الذي يشتري حاويات ضخمة، لذلك يجب على الدولة مساعدة أصحاب رؤوس الأموال وأصحاب المصانع للحصول على مواد أولية بسعر منخفض.
اتفاقيات للنقل
وطالَبَ الحكومة بالمساهمة في تخفيف تكلفة النقل على الصناعيين ليستطيعوا المنافسة، فالنقل يساوي أحياناً ما لا يقل عن عشرة بالمئة من تكلفة السلعة، وأحياناً عشرين بالمئة، وقد يصل إلى ثلاثين بالمئة، حسب نوع المنتَج.
لذلك يجب على الحكومة وكبار المستوردين البحث عن شركات شحن والاتفاق معها لتكون ناقلاً دائماً بأسعار مخفّضة، وقد تتجاوز نسبة خفض أجور النقل النصف في مثل هذه الاتفاقيات، كل ذلك يسهم في خفض تكلفة المنتَج وبالتالي قدرته على المنافسة.
وبخصوص الضرائب والجمارك، قال: إذا أرادت الدولة دعم الصناعة الوطنية لتكون منافسة، فيجب أن تخفّض أو تلغي الجمارك على المواد الأولية الداخلة في الصناعة.
قروض من دون فائدة
ولتشجيع التصدير اقترح د. أكريّم إعطاء قروض دون فائدة، وطرح مثالاً توضيحياً:


إذا أرادت الحكومة دعم صناعة المنظفات فعليها أن تتفق مع المنتج على إعطائه قرضاً بعد كل صفقة تصدير ينفذها.
وفي هذا الحالة – بحسب رأي د. أكريّم – سيسعى المنتِج إلى تخفيف الربح وتسريع دورة رأس المال، لأن دورة رأس المال إذا كانت سنوية قد تكون نسبة الربح مثلاً ثلاثين بالمئة، أما إذا كانت أسبوعية فيقبل المصدر بنسبة ربح واحد بالمئة، وهو يعلم أنه يحقق أرباحاً أكثر من الثلاثين بالمئة.
قروض على طلبيات البيع
ودعا أيضاً إلى ضرورة منح القروض وفق طلبيات البيع أو التصدير، وطرح مثالاً على ذلك:
لنفترض أنني أصنّع دراجات هوائية وجاءتني طلبية لتصنيع ألف دراجة، قيمتها مثلاً مئة ألف دولار، هنا يجب تسهيل منح المنتِج قيمة المواد الأولية التي قد تساوي، مثلاً ستين ألف دولار.
المشاريع المتعثرة
يرى أكريّم أن مَن يمتلك المعلومات يمتلك الحلول، لذلك فهو يقترح وضع خارطة بمشاريعنا الصناعية المتعثرة، ومعرفة أسباب تعثّرها، فإذا كانت الأسباب مالية فيجب حل المشكلة بمنح قروض دون فائدة، وستُعاد القروض مع دورة الإنتاج والتصدير الأولى، خلال مدة زمنية قصيرة. استبدال الآلات القديمة
ويجب معرفة أن معظم آلات مصانعنا قديمة، ولم يتم تجديدها بسبب الحرب والحصار،  كما يجب معرفة القفزات التي قفزتها خطوط إنتاج الصناعات العالمية المماثلة، وعلينا مواكبتها باستبدال الآلات القديمة بأحدث الآلات، ويجب أن تدعم الدولة والدول الصديقة ذلك من خلال قروض بضمانة المعامل ذاتها.. فحل مشكلة المشاريع المتعثرة من أولويات النهوض الاقتصادي أو الصناعي.
ودعا إلى إقامة دورات تثقيفية يحاضر فيها خبراء ورجال الأعمال الأكثر نجاحاً لإطلاع المنتجين على تجاربهم، وعلى أحدث ما توصلت إليه صناعاتهم، ويمكن أن يكون لغرف التجارة والصناعة دور في إقامة الورش التدريبية.
صفقات من أجل التسويق
التسويق هو سلاح بيد القطاع الخاص والدولة، لذلك يجب عليهما المساهمة بتسويق المنتج السوري من خلال مباحثات وصفقات مع الدول الصديقة الراغبة بمساعدتنا، ويمكن للدبلوماسية السورية وللعلاقات العامة والخاصة أن تلعب دوراً في التسويق.

وطرح مثالاً على ذلك، ضرورة العمل على إقناع دولة ما، كألمانيا مثلاً بشراء الحمضيات المنتجة في سوريا بمواصفات محددة، يمكن أن تساهم هي بوضعها، وبذلك نضمن تنشيط صناعة الحمضيات وتحقيق قيمة مضافة.
وكذلك الأمر في بقية القطاعات كقطاع النسيج مثلاً، بحيث تكون الحكومة مسوّقاً للسلعة بموجب اتفاقيات.
أهمية المعارض
وشدد على أهمية المعارض للتعريف بالمنتجات السورية ذات المواصفات المنافسة، داعياً الحكومة للمساهمة بتحديد مساحات محددة للمنتجات السورية، وهنا يمكن أن تلعب العلاقات الدبلوماسية والشخصية دوراً مهماً في تحديد مساحات للصناعات السورية في معارض الدول الصديقة بنصف التكلفة أو مجاناً.

دعم الزراعة
وحول أهم الصناعات التي يجب الاهتمام بها لأنها قادرة على المنافسة، قال: نحن بلد زراعي، لذلك يجب دعم كل ما يخدم الزراعة كالأسمدة والبذار وأساليب الري الحديثة والطرق والنقل، وتصنيع المنتج الزراعي والتوضيب والتغليف والتصدير.
الاستثمار في الطب
ودعا إلى استثمار نجاح السوريين في مجال الطب بإقامة مدن طبية للعلاج تستقطب دول الجوار، كذلك كبار الأطباء السوريين لزيارات دورية لسوريا لإلقاء محاضرات وإجراء عمليات دقيقة يتابعها المتخصصون الجدد، والاهتمام بالبرمجيات وتوطين التقانة وإقامة مجمعات لصناعة البرمجيات على نمط الهند.
أهمية المصداقية
وقال: إن فتح الأسواق ليس أمراً سهلاً، ويحتاج إلى وقت وإلى مواصفات وسعر مميز للمنتج، ولذلك عندما تنجح بفتح سوق لبضاعتك فاحذر أن تغلقه، فإغلاقه يتم بلحظة أو بخطأ أو بعدم الالتزام بالمواصفة أو السعر أو الوقت.. الخ.
استقطاب أهم المصانع
وشدّد على أنه يجب استقطاب أهم المصانع والشركات الناجحة للعمل في سوريا، كمعامل السيارات الصينية مثلاً، متسائلاً: لماذا لا يتم إجراء مفاوضات معها لإنشاء معامل في سوريا، مع تقديم كل التسهيلات لها، ومنحها الأرض بشكل رمزي، وسيوافقون لأنهم سيحققون أرباحاً أكثر بسبب رخص اليد العاملة عندنا.
وكذلك يجب استقطاب الشركات التركية الرائدة والشركات الخليجية، خاصة شركات صناعة البتروكيماويات لإقامة شراكات معها وإنشاء معامل لها في سوريا.
وبالنهاية يجب أن نسعى إلى تحقيق فكرة الجميع رابح.. المستثمر رابح، والمصنِّع رابح والشريك رابح، والعامل رابح، وبالنتيجة تكون الدولة رابحة.

شارك