ويُشير الخبير الاقتصادي والمستشار الدكتور زياد عربش في حديث لصحيفة «الحرّية» حول المطلوب للمرحلة المقبلة للنهوض بقطاع الطاقة، مُقدّماً ورقة تنفيذية تبلور مجموعة من المشاريع الممكن تنفيذها ضمن محددات السياسات الاجتماعية والتماسك والانتعاش والحوكمة الرشيدة، مع الولوج بتقانات الإنتاج المتقدمة، عبر ثلاثية: وقف نزيف الموارد والهدر الطاقوي، مشاريع إنتاج الطاقة الكهروشمسية والكهروريحية ضمن مفهوم التنمية المحلية (بيئة ومنفعة مجتمعية) وباعتماد عدة مقاربات: من الأسفل إلى الأعلى وبالتدرج وحسب الطلب الفعلي للسكان بالتنمية التشاركية والتشبيك لحشد الطاقات الفعلية والكامنة، إذ إن مواءمة العرض والطلب على الطاقة يفرض تكامل السياسات على المدى العاجل ضمن القطاع ولبلوغ الغايات التنموية طويلة الأجل على اعتبار أن هذه المرحلة تفرض مقاربات وحلولاً غير تقليدية.
محاور التدخل المرحلية وطويلة الأجل..
وتشمل محاور التدخل المرحلية والطويلة الأجل، حسب عربش، تقييم محدّث ودقيق لأضرار البنية التحتية للقطاع ومحطات الإنتاج وشبكات التوزيع والإمداد والتخديم (وما تم إصلاحه بعجالة) والمتطلبات المادية والبشرية اللازمة لترميم هذه الأضرار ضمن برنامج زمني محدد، بالتوازي مع إعداد دراسة قانونية لتشمل ملفات المطالبة وتثبيت الاختراقات وطلب التعويضات التي تحكمها المعايير القانونية والدولية، ووضع خطة وإن متدرجة التنفيذ، لرفع كل الإجراءات المتخذة والعقوبات (خاصة إنها غير أممية) بحق المؤسسات والأشخاص السوريين، لأن عودة التمويل وتنفيذ المشاريع يتطلب رفع العقوبات وليس فقط الجبر والتعويض.
ويُعد عقلنة استهلاك الطاقة كمكون للنمو وكضرورة حتمية – أحد محاور التدخل- وتطبيق الإدارة المتكاملة للطلب من التسعير العقلاني إلى الاستثمار بالتقانة والبرامج الكفيلة بالتصدي لمسألة الهدر والفواقد بجميع أنواعه والضياعات، وتحقيق ترشيد حقيقي للاستهلاك من خلال سياسات التحفيز وتطبيق القانون والتشريعات الرادعة بحق مسيئي استخدام مرافق البنية التحتية الكلية والمحلية، واعتماد معايير الاستهلاك الكفوءة من حيث الموثوقية، والاستغلال الأمثل للاستثمارات وتخفيض كلف الإنتاج والإمداد، مع ضمان تطوير مستوى تقديم خدمة الطاقة وفق المعايير الدولية.
يُمكن النهوض بقطاع الطاقة من خلال وقف نزيف الموارد والهدر الطاقوي ومشاريع إنتاج الطاقة الكهروشمسية والكهروريحية ضمن مفهوم التنمية المحلية
يُضيف الدكتور عربش إلى ما سبق من ضمن محاور التدخل المرحلية والطويلة الأجل اعتماد تسعير اقتصادي- اجتماعي رشيد ضمن متطلبات الاقتصاد السوري وذلك بالاعتماد على نظام محاسبة تكاليف متطور ودقيق، بحسب التوازن الفعلي بين الأسعار والكلف ضمن مبدأ الشرائح التصاعدية العادلة والتحفيزية، لعقلنة الاستهلاك (وليس بالضرورة كبحه قسرياً) كمكون للنمو والتشغيل، إلى جانب تطبيق سياسة جريئة لتطبيق الإدارة المتكاملة للطلب لتحقيق الإدارة الرشيدة والمتكاملة في جانبي العرض والطلب، أي بلوغ التوازن في أسعار حوامل الطاقة بكل أنواعها واعتماد التعرفة على أساس المحتوى الطاقي لكل حامل وتكاليف إنتاجه الفعلية والانتقال من سياسة دعم المنتج الطاقوي (مشتقات نفطية، كهرباء، غاز مسال) إلى أسلوب الدعم الشفاف والذكي أي تقديم الدعم المباشر إلى الشرائح المجتمعية المستهدفة بأساليب جديدة مع الأخذ بعين الاعتبار تحسين وتطوير دخول المواطنين ضمن هذه السياسة.
آليات مناسبة
ويدعو عربش إلى اعتماد الآليات المناسبة لحث مستهلكي الطاقة على الاستخدام الأمثل والكفوء لحوامل الطاقة من مشتقات نفطية وكهرباء ومساهمتهم في إدارة الطلب على الطاقة (تطبيق نظام التعرفة المتغيرة حسب وقت الاستهلاك والعدادات الذكية ومسبقة الدفع، اتباع السياسات التي تشجع أو تلزم مستهلكي الطاقة وخاصة كبار المستهلكين في الاستفادة من تطبيقات الطاقات المتجددة في تأمين جزء أو كل الطاقة اللازمة لنشاطهم الاقتصادي أو الاجتماعي، مع متابعة تطبيق مبدأ إغلاق المحلات التجارية عند الساعة السابعة ليلاً في الشتاء والثامنة صيفاً، إضافة إلى مراقبة استهلاك كل مصادر الطاقة وتحديداً الكهربائية في دور العبادة والمدارس والجامعات وتشجيعها لاعتماد الطاقات الجديدة، والاستفادة من الطاقة الشمسية لضخ المياه من الآبار (تأمين قروض مجدية للفلاحين) إلى جانب الاستفادة المثلى من مصادر النفط والغاز المتاحة حالياً والتوسع في الاكتشافات الجديدة لهذه المصادر، والاستفادة من مصادر الطاقة الاخرى المتاحة مثل الحجر السجيلي وغيره، مع تخفيض استهلاك الغاز في محطات التوليد (استهلاك الغاز الطبيعي اللازم للحراقات) باستخدام ألواح التسخين على الطاقة الشمسية لرفع درجة حرارة المياه قبل إدخالها إلى دارة التبخير.
لابدّ من تقييم محدّث ودقيق لأضرار البنية التحتية للقطاع ومحطات الإنتاج وشبكات التوزيع والإمداد والتخديم
دراسة الوضع المائي
وتشكل دراسة الوضع المائي وأخذها بعين الاعتبار عند التخطيط لإقامة أي محطة توليد كهرباء بخارية جديدة إحدى أهم السياسات على المدى العاجل ضمن قطاع الطاقة ولبلوغ الغايات التنموية طويلة الأجل، وفقاً لعربش، بما يشمل إجراء الدراسات اللازمة لإنشاء السدات المائية والاستعانة بمصادر المياه غير التقليدية قرب المحطات القائمة والتي بدأت تعاني شح الموارد المائية واستنزافها وارتفاعاً جوهرياً في كلف الاستجرار اليومي، أضف إليه، دراسة إمكانية إقامة سدات مياه للاستفادة من المياه السطحية في مواقع استثمار الثروات المعدنية، واستخدام تقنيات تصنيع وإقامة محطات طاقة هجينة ذات استهلاك مائي مغلق، مع اعتماد مبدأ العمارة الخضراء في المناطق العمرانية السكنية الجديدة بحيث يكون تطبيق العزل الحراري للبناء وتركيب سخانات شمسية ومنظومة كهروضوئية ملزماً للتنفيذ في هذه المناطق وتوضع الأليات المناسبة لتحقيق ذلك.
ومن بين المحاور التي ذكرها الدكتور عربش التوسع في وسائل النقل الجماعي الموفرة للطاقة والتشجيع على استيراد السيارات الكفوءة طاقياً والتي تعمل على مصادر غير تقليدية (كهرباء، طاقة شمسية) وإلزام كافة الجهات العامة بتركيب لواقط كهروضوئية على المساحات المتاحة على أسطح مبانيها، مع إحداث صندوق لدعم الطاقات المتجددة وكفاءة الطاقة بهدف تقديم التسهيلات والحوافز والضوابط الكفيلة بإقدام مستهلكي الطاقة على الاستهلاك الكفوء للطاقة والتوسع في تطبيقات الطاقات المتجددة.
تشكل دراسة الوضع المائي عند التخطيط لإقامة أي محطة توليد كهرباء بخارية جديدة إحدى أهم السياسات على المدى العاجل
وهذا يتطلب بطبيعة الحال إعادة هندسة المنظومات الكلية والفرعية، إنتاجاً وإدارة واستهلاكاً وتسعيراً، أي إعادة هيكلة قطاع الطاقة وتوحيد كل المسارات ضمن هيكلية واحدة تضمن وجود إدارة وسياسة موحدة لهذا القطاع ورؤيته وخطة واحدة تضفي المرونة والديناميكية الكافية لإنجاز مرحلة إعادة الإعمار وتطوير هذا القطاع، وبالأخذ بعين الاعتبار التباين المناطقي والقطاعي وهشاشة شرائح اجتماعية عديدة هي بالأصل تقع في مناطق منكوبة، وتعزيز مقومات الاستقرار، كما لفت عربش إلى ضرورة إعادة تجهيز وتحديث الخارطة الاستثمارية الطاقوية، وتطوير طرق التمويل والاستثمار مع إعادة الهيكلية الحوكمية الناظمة والتنظيمية لمؤسسات الطاقة للإقلاع بأنشطة انتاج الطاقة ولغايات تنموية، وذلك لتحفيز دخول الشركات الدولية التي تمتلك القدرات المالية والتقنية التي تؤهلهما للعب دور محوري في إعادة بناء قطاع الطاقة (إنتاج النفط والغاز وإنشاء محطات توليد كهرباء وخطوط نقل ومحطات التحويل).
الاستثمار في التكنولوجيا
كما يتطلب النهوض بقطاع الطاقة توسيع الشراكات بين أصحاب المصلحة المتعددين ولدوافع عديدة، من كبر حجم التمويل المطلوب، إلى توسيع نطاق التشاركية، مع تطوير إجراءات التصدي للممارسات الملتبسة والحد من الاحتكار، من خلال اعتماد معايير المسألة الشفافة وتطبيق أدوات التقييم والتتبع لتعظيم مكتسبات النجاحات المتحققة، إلى جانب تقييم الطلب الفعلي والكامن خلال السنوات القادمة خاصةً مع تغّير كثافة أماكن الاستهلاك والتوزع الديمغرافي بفعل النزوح الداخلي والهجرة وتموضع النشاط الاقتصادي بفعل الحرب.
ونوّه عربش إلى ضرورة دعم الاستثمار في التكنولوجيات والتطبيقات الحديثة، وتطبيق مبدأ الشبكات الكهربائية الذكية، ونظم المعلومات الجغرافية (GIS) والإدارية (MIS) للرصد والتخطيط وإدارة عمليات الإمداد والتوزيع والتخديم، والاستعانة بالكفاءات السورية المنتشرة في المغتربات للمساهمة في إعادة تأهيل المنظومات الفرعية للبنى التحتية، خاصة أن قسماً كبيراً منها تزود بمهارات تقنية وخبرات عديدة في سياقات مختلفة.