بعد سنوات طويلة من العزلة مع أوروبا والعالم.. ما المطلوب مصرفياً لتحصيل أفضل المكاسب وتحقيق عودة سوريا إلى المنظومة المالية العالمية؟

بعد الخطوة الأمريكية الأسبوع الماضي برفع العقوبات عن سوريا، تأتي نظيرتها الأوروبية اليوم رافعة ودافعة للانفتاح على سوريا من أوسع الأبواب على اختلافها ولاسيما اقتصادياً، وبالعكس، أي انفتاح سوريا على العالم، بما يُبشر بحركة اقتصادية، مالية ونقدية، على وجه الخصوص واعدة، ولاسيما إن تم استكمال كل الخطوات المرتبطة بالسياق داخلياً، بمعنى كما طرحنا السؤال سابقاً نعيده اليوم، كيف يمكن الاستثمار بهذه الخطوات داخلياً، ماذا يُمكن أن نقدم في المجال المالي والنقدي والتجاري والصناعي ليعود النشاط الاقتصادي السوري إلى مكانه في التجارة والتبادلات العالمية.

ومما لا شك فيه أن الخطوة الأوروبية تُعتبر مهمة على الصعيدين الاقتصادي والسياسي، بعد الخطوة الأمريكية، مع توقعات بأن تتبعها اليابان في الأيام القليلة المقبلة، حسب الخبير الاقتصادي والمصرفي الدكتور إبراهيم نافع قوشجي الذي يرى أنّ هذا القرار يُشكّل نقطة تحولٍ محورية لبداية تعافي الاقتصاد الذي عانى لسنوات طويلة من تبعات الحروب والعقوبات الداخلية والخارجية، وعلى وجه الخصوص يمثل نقطة تحول حاسمة للقطاع المصرفي، الذي كان يعاني من عزلة دولية وتحدّيات داخلية كبيرة.

– رفع العقوبات فرصة تاريخية للقطاع المصرفي السوري ونجاحه يعتمد على قدرة الحكومة على تنفيذ إصلاحات

الفرص

ومع استعادة الروابط المالية العالمية، يواجه النظام المصرفي السوري فرصة نادرة لإعادة الهيكلة والتحديث، حسب قوشجي في تصريحه لـ«الحرّية» لكن ذلك يتطلب إصلاحات جوهرية لضمان استقرار القطاع واستعادة الثقة المحلية والدولية.
ويُمكن اعتبار إعادة ربط المصارف السورية بالنظام المالي العالمي، من أبرز الفرص، إذ إنّ رفع العقوبات يتيح للمصارف السورية العودة إلى نظام التحويلات المالية الدولية مثل SWIFT، ما يُسهل عمليات التجارة والاستثمار، كما يُساهم في تحفيز الاستثمار الأجنبي مع إزالة القيود المالية، حيث يُمكن للمستثمرين الدوليين دخول السوق السورية بسهولة أكبر، ما يعزز تدفق رؤوس الأموال ويخلق فرصاً جديدة للنمو الاقتصادي.
ويُضيف قوشجي فرصاً أخرى من بينها تحسن سعر صرف الليرة السورية، فتدفق الأموال الخارجية إلى المصارف السورية سيؤدي إلى زيادة الاحتياطي النقدي، ما يساهم في استقرار سعر الصرف وتحسين القدرة الشرائية للمواطنين، كما أن رفع العقوبات يسمح بإصلاح النظام المصرفي الداخلي من خلال فتح الباب أمام تحديث القوانين المصرفية، وإعادة هيكلة المؤسسات المالية لضمان الشفافية والكفاءة في العمليات المصرفية.

– رفع العقوبات بداية لمرحلة جديدة ومن دون خطة اقتصادية مدروسة قد تتحول الفرصة إلى فوضى

التحدّيات

لكن رفع العقوبات غير كافٍ إذ لا بدّ من خطوات داخلية تتمثل بإعادة بناء الثقة بعد سنوات من العزلة، إذ يحتاج القطاع المصرفي إلى استعادة ثقة المستثمرين والمودعين من خلال سياسات مالية شفافة وإجراءات رقابية صارمة، إلى جانب مكافحة الفساد المالي ولضمان نجاح الإصلاحات، يجب اتخاذ إجراءات صارمة ضد الفساد داخل المؤسسات المصرفية، خاصة فيما يتعلق بغسيل الأموال والاحتكارات المالية، وفقاً لقوشجي، إلى جانب تحديث البنية التحتية المصرفية، فمعظم المصارف السورية بحاجة إلى تحديث أنظمتها التقنية والرقمية لتواكب المعايير الدولية وتوفر خدمات مصرفية حديثة، مع ضرورة إدارة المخاطر المالية، فمع تدفق رؤوس الأموال، يجب وضع سياسات فعالة لإدارة المخاطر المالية، مثل تقلبات سعر الصرف والتضخم، لضمان استقرار القطاع المصرفي على المدى الطويل.

– رفع العقوبات يعني فتح الأبواب أمام الاستثمارات الخارجية وعودة التحويلات المالية وإعادة الاندماج مع الأسواق العالمية

الخطوات المطلوبة

ما سبق ذكره يتطلب بطبيعة الحال جملة من الخطوات لإنعاش القطاع المصرفي، يستعرضها قوشجي على النحو التالي:
إصلاح القوانين المصرفية لضمان بيئة مالية شفافة وجاذبة للاستثمار، إعادة هيكلة المصارف لتعزيز الكفاءة والحد من الفساد المالي، مع تشجيع المنافسة المصرفية عبر السماح بدخول مصارف جديدة إلى السوق، إلى جانب تطوير الخدمات الرقمية لتسهيل المعاملات المالية وجذب العملاء.

إصلاحات جادة

ويعود الدكتور قوشجي للتأكيد أن هذه الخطوة يجب أن تُرافَق بإصلاحات داخلية جادة، حيث لا يزال الاقتصاد السوري يعاني من عقوبات داخلية فرضها النظام السابق، مثل القيود على تحويل العملات والاحتكارات التي خنقت الاقتصاد السوري، لذا، فإن على الحكومة السورية الحالية العمل فوراً على إلغاء هذه القيود وتشجيع المنافسة الحرة، ما سيسرع عملية الانتعاش، من هنا فإن رفع العقوبات ليس حلاً سحرياً، بل هو بداية لمرحلة جديدة من التحديات، ومن دون خطة اقتصادية مدروسة، قد تتحول الفرصة إلى فوضى أو استغلال من الفاسدين، ولاسيما أن العقوبات رفعت عن اقتصاد منهك ومشوه ويحتاج إلى خطط إنعاش عامة إلى جانب الخاصة بالقطاع المصرفي التي ذكرها الدكتور قوشجي آنفاً، تتركز على إعادة بناء البنية التحتية، خاصة في قطاعات الكهرباء والمياه والنقل، التي تُعتبر أساسية لجذب الاستثمار لدعم القطاع الزراعي والصناعي عبر توفير التمويل لتعزيز الإنتاج المحلي، مع تشجيع القطاع الخاص عبر إلغاء الاحتكارات وتقديم حوافز ضريبية وتمويلية للمستثمرين، ومكافحة الفساد الذي يُعد العائق الأكبر أمام أي تقدم اقتصادي.

فرصة لن تتكرر

بالمحصلة، فإن قرار رفع العقوبات يمثل فرصة تاريخية للقطاع المصرفي السوري ولعموم القطاعات، ولاسيما مع فتح الأبواب أمام الاستثمارات الخارجية، عودة التحويلات المالية، وإعادة الاندماج مع الأسواق العالمية. كما سيمكّن سوريا من استيراد المواد الأساسية وتصدير المنتجات المحلية، ما سينعش القطاعات الإنتاجية ويخلق فرص عمل جديدة.
لكن النجاح، كما يرى قوشجي، يعتمد على مدى قدرة الحكومة والمؤسسات المالية على تنفيذ إصلاحات جذرية تضمن استقرار النظام المصرفي وتعزز دوره في دعم الاقتصاد الوطني، كما يعتمد على كيفية إدارة المرحلة القادمة، من هنا يجب أن تعي الحكومة السورية أن الفرصة لن تتكرر، وأن الشعب السوري يتطلع إلى سياسات اقتصادية عادلة تُعيد بناء ما دُمّر وتفتح الطريق لمستقبل أفضل، فالتعافي ممكن، لكنه يحتاج إلى خطط اقتصادية فعالة وحقيقية واستراتيجية، تضمن أن تكون الأولوية لمصلحة الشعب والوطن.

شارك