مع الأخذ بعين الاعتبار لأمرين مهمين، أولهما، أنه ليس من السهولة اتخاذ قرارات كهذه قبل توفير بيئة تشريعية قانونية تسمح المضي بذلك، وثانيهما الواقع الاقتصادي السوري، الذي تحيط به المشكلات منذ سنوات طويلة، وبالتالي فإن التأني في الاعتماد على القطاع الخاص كبديل عن القطاع العام، يجب أن يؤخذ بالحسبان، لأن المعروف عن رأس المال أنه جبان، وسيكون الهدف الأكبر لأصحابه هو تحقيق الربح مهما أعلن من نيّات صادقة.
خبير: من المجدي لسوريا أن تتبنى الخصخصة بعد التحرير ولكن بشكل مدروس تدريجي وضمن إطار مؤسسي ورقابي صارم
ثلاثة محاور
الخبير الإداري الدكتور إياس الحمدان أجاب عن سؤال “الحرية” حول إمكانية تبني نهج الخصخصة في مرحلة إعادة الإعمار، قائلاً: سؤال مهم للغاية ويطرح إشكالية جوهرية في سياق إعادة الإعمار والتنمية في الدول الخارجة من الحرب مثل سوريا، والإجابة تستدعي تناول ثلاثة محاور رئيسية: جدوى الخصخصة، طبيعتها (كلية أم جزئية)، ودور القطاع العام.
وعن المحور الأول: هل من المجدي أن تتبنى سوريا الخصخصة بعد التحرير؟ يمكن القول نعم، لكن بشروط دقيقة، فالخصخصة يمكن أن تكون أداة فعالة لتعزيز الكفاءة، جذب الاستثمار، وتحسين جودة الخدمات، لكنها ليست وصفة جاهزة تصلح في كل السياقات. لهذا في الحالة السورية، يجب أخذ الاعتبارات التالية بعين الاعتبار…
– البنية المؤسسية الضعيفة: أي خصخصة بلا رقابة فعالة ومؤسسات قوية قد تؤدي إلى تفشي الفساد وتركز الثروة.
التجربة الروسية في التسعينيات ومآسي الخصخصة العشوائية في بعض الدول العربية ما زالت شاهدة على مخاطر التفريط المتسرع في القطاع العام
– انعدام الثقة بين المواطن والدولة: فبعد سنوات طويلة من الديكتاتورية، قد تثير الخصخصة السريعة احتجاجات إذا فهمت على أنها تفريط بالثروة الوطنية.
– الاحتكار والفساد: كما حدث في بعض التجارب العربية والعالمية، الخصخصة غير المدروسة قد تؤدي إلى ظهور طبقة “أوليغارشية” استغلالية ستزيد من سوء الأمور.
أما المحور الثاني، خصخصة كاملة مباشرة أم جزئية متدرجة؟
يرى الحمدان أن الأفضل هو الخصخصة الجزئية المتدرجة وفق إطار زمني ومؤسسي واضح، من خلال التدرج يسمح ببناء قدرات الدولة على التنظيم والرقابة، الاحتفاظ بحصة إستراتيجية في القطاعات الحساسة (النفط، الكهرباء، المياه) يحفظ السيادة الاقتصادية، استخدام أسلوب “الشراكة بين القطاعين العام والخاص” (PPP) يساعد على جذب التمويل مع الحفاظ على الرقابة العامة.
وفيما يخص المحور الثالث: ما دور القطاع العام في الدول الخارجة من الحروب؟
يضيف الحمدان: القطاع العام في المراحل الأولى من ما بعد الحرب يؤدي دوراً مركزياً، وتشمل أدواره:
قيادة عملية إعادة الإعمار: لأن القطاع الخاص لا يستثمر في بيئة عالية المخاطر.
تحقيق الاستقرار الاجتماعي: عبر تشغيل اليد العاملة، وضمان الحد الأدنى من الخدمات الأساسية (تعليم، صحة، مياه، كهرباء).
تهيئة البيئة للاستثمار: من خلال إعادة بناء البنية التحتية، إصلاح الجهاز القضائي، وتوفير ضمانات قانونية.
لهذا فإن الخلاصة وفق الحمدان: من المجدي لسوريا أن تتبنى الخصخصة بعد التحرير، ولكن بشكل مدروس، تدريجي، وضمن إطار مؤسسي ورقابي صارم. أما القطاع العام، فدوره أساسي في مرحلة التعافي، ويجب أن يستمر كشريك إستراتيجي يوجه الاقتصاد نحو الاستقرار والنمو قبل أن تُسلم بعض الأدوار تدريجياً للقطاع الخاص.
مشروطة أم مغامرة محفوفة بالمخاطر؟
ويستطرد الحمدان قائلاً: تقف سوريا أمام مفترق اقتصادي حاسم، فهل تمضي في طريق الخصخصة كوسيلة لإنعاش الاقتصاد، أم تتمسك بالدور التقليدي للدولة في قيادة التنمية؟ الجواب ليس بسيطًاً، لكنه يتطلب قراءة واقعية ودقيقة للمرحلة المقبلة.
الخصخصة، في جوهرها، ليست عيباً ولا فضيلة بحد ذاتها. هي أداة، ونجاحها يعتمد على السياق السياسي والاقتصادي الذي تُطبَّق فيه. في دول خرجت من صراعات دامية مثل سوريا، الخصخصة المباشرة والكاملة قد تتحوّل إلى فوضى اقتصادية إذا لم تُسبق بإصلاحات مؤسسية عميقة. التجربة الروسية في التسعينيات، ومآسي الخصخصة العشوائية في بعض الدول العربية، ما زالت شاهدة على مخاطر التفريط المتسرع في القطاع العام.
لكن هذا لا يعني أن تبقى الدولة مالكة لكل شيء. الخصخصة الجزئية، المدروسة والمتدرجة، قد تكون خياراً وسطًاً أكثر عقلانية. من خلال شراكات إستراتيجية بين القطاعين العام والخاص، يمكن جذب استثمارات جديدة من دون التخلي الكامل عن السيادة على القطاعات الحيوية مثل الطاقة، المياه، والنقل.
أما الحديث عن “دور القطاع العام” في سوريا ما بعد الحرب، فهو ليس ترفاً نظرياً. بل هو صمام أمان اجتماعي واقتصادي. الدولة يجب أن تبقى الضامن الأول للاستقرار، وخاصة في السنوات الأولى بعد التحرير. لا يمكن الاعتماد على السوق وحده لإعادة إعمار المدارس والمستشفيات والبنية التحتية. ولا يمكن ترك المناطق المحررة رهينة لشركات تبحث فقط عن الربح.
وختم الحمدان: إن الخصخصة، إن حدثت، يجب أن تكون في خدمة المواطن، لا على حسابه. ويجب أن تكون جزءاً من رؤية اقتصادية شاملة تضع العدالة الاجتماعية والاستقرار في قلبها. التحدي ليس في البيع أو الاحتفاظ، بل في بناء اقتصاد يضع الإنسان أولاً.