يواجه القطاع الدوائي في سوريا أزمة متفاقمة تتجلى في ارتفاع أسعار الأدوية، وتراجع القدرة الإنتاجية، والاعتماد المتزايد على الاستيراد، ما يضع هذا القطاع الحيوي أمام مفترق طرق في ظل تحديات اقتصادية متراكمة تهدد استمراريته وقدرته على تلبية احتياجات المواطنين.
خلال عام 2023 فقط، رفعت حكومة النظام السوري أسعار الأدوية ثلاث مرات، كان آخرها في كانون الأول بنسبة تراوحت بين 70 -100 بالمئة، استجابة لمطالب معامل الأدوية التي يديرها مقربون من النظام، بحسب ما جاء في تقرير لموقع “سوريا” بتاريخ 28 شباط 2025، بعنوان: “أصناف مفقودة وأسعار مرتفعة.. سوق الدواء السوري في أسوأ حالاته”.
ورغم هذه الزيادات الكبيرة، إلا أن الكثير من الأصناف ما زال مفقوداً من الأسواق، مما اضطر المرضى إلى اللجوء إلى بدائل مهرّبة وغير مراقبة صحياً، وسط تحذيرات من مخاطر هذه الظاهرة على صحة المواطنين.
صناعة محلية تتآكل بعد 2011
قبل عام 2011، كانت سوريا تغطي 90 بالمئة من احتياجاتها الدوائية محلياً، مستفيدة من قاعدة صناعية متينة، إلا أن هذه القدرة الإنتاجية تآكلت بفعل عوامل متعددة أبرزها العقوبات الاقتصادية، والتراجع الحاد في قيمة الليرة السورية خاصة قبل التحرير، وصعوبة الحصول على القطع الأجنبي اللازم للاستيراد، وارتفاع تكاليف التشغيل.
وفي ظل هذا التراجع، لجأت الجهات المعنية إلى الاستيراد كخيار اضطراري لتأمين الأدوية الأساسية، إلا أن هذا الخيار لم ينجح في سد الفجوة بالكامل، مما أبقى السوق عرضة لنقص الأصناف وظهور بدائل غير آمنة.
وأشار مدير عام مؤسسة التجارة الخارجية في حكومة النظام السابق في وقت سابق إلى أن حاجة سوريا السنوية من الأدوية تبلغ نحو 180 مليون يورو، منها 82 مليون يورو تُخصص لاستيراد 75 مستحضراً خاصاً بعلاج السرطان، بحسب ما أورده موقع “سناك سوري” في تقريره بتاريخ 15 تشرين الأول 2023.
تكاليف الطاقة تقصم ظهر الصناعة
ويُعد ارتفاع تكاليف الطاقة من أبرز هذه التحديات، إذ تشير تقارير إلى أن تكلفة الكهرباء للمصانع تتراوح بين 150 و200 مليون ليرة سورية شهرياً، ما يشكل نحو 35 بالمئة من تكلفة الإنتاج، كما أن التحول إلى الطاقة البديلة عبر الألواح الشمسية يواجه عقبات متعلقة بالمساحة والتكلفة، بحسب ما ذكرته وكالة “أوقات الشام الإخبارية” في تقريرها بتاريخ 20 آب 2024 بعنوان: “تراجع صادرات الأدوية السورية بنسبة تزيد عن 50 بالمئة.. ما الأسباب؟”
رئيس لجنة الأدوية البشرية في غرفة صناعة دمشق وريفها، الدكتور عمار معتوق، عبّر في تصريح خاص لصحيفة الثورة، عن القلق المتزايد داخل أوساط المعامل الدوائية السورية، قائلاً: “في المرحلة الحالية، نواجه تحديات حقيقية، أبرزها ارتفاع التكاليف الإنتاجية، خصوصاً حوامل الطاقة، التي أصبحت تشكل عبئاً يفوق بكثير ما تتحمله الصناعات في دول الجوار، وهذا الأمر يؤثر على جميع مراحل التصنيع”.
ويوضح معتوق أسباب فقدان بعض الأصناف من الأسواق: “هناك عدد من المستحضرات تُصنّف على أنها خاسرة، لأن أسعارها المحددة من الوزارة تقلّ عن تكلفة إنتاجها الفعلية، وهذا ما يدفع أصحاب المعامل إلى التوقف عن تصنيعها، وبالتالي تختفي من السوق، في حين يتم استبدالها بأدوية مهرّبة لا تخضع لأي رقابة صحية، ما يشكل خطراً كبيراً على صحة المواطنين”.
ويتابع في ذات السياق أن الأدوية المهرّبة تغزو الأسواق حالياً، وتشكل عائقاً حقيقياً أمام المستحضرات الوطنية، ليس فقط من ناحية المنافسة السعرية، وإنما أيضاً بسبب ضعف ثقة المستهلكين، مشيراً إلى أن هذه الأدوية ليست مستوردة بشكل صحيح ولا موثوقة المصدر، ما يُعرض المرضى لمخاطر صحية.
رسالة للحكومة
أما عن المواد الأولية، فقد أوضح معتوق أنه على الرغم من تحسّن شروط الاستيراد نسبياً بعد تحسن الوضع الأمني وتخفيف بعض القيود، إلا أن الأسعار العالمية للمواد الأولية تتغير باستمرار، وخاصة في مجال المتممات الغذائية، وهذا ما يجعل تسعير المستحضرات محلياً وفق الأسعار القديمة غير منطقي ويكبد المعامل خسائر فادحة.
وأكد معتوق أن معظم المعامل تحاول اتخاذ إجراءات استباقية لتجنب الانقطاعات، إذ تحرص على تأمين مخزون استراتيجي من المواد الأساسية، وتعمل على تثبيت كميات مسبقة مع الموردين، بهدف ضمان توفر الأصناف الحيوية للمواطن السوري من دون انقطاع.
واختتم حديثه بتوجيه رسالة مباشرة إلى الحكومة: “نحن نؤمن أن العمل كفريق بين الحكومة والقطاع الصناعي هو السبيل الحقيقي لتجاوز الأزمة وتحقيق الاستقرار الدوائي للمواطن السوري، ونحن بحاجة لتوفير ما أسميه “الأمان الصناعي”، وهذا يتضمن: تخفيض تكلفة الإنتاج، خاصة فيما يتعلق بالكهرباء، إعفاء المواد الأولية من الجمارك، تقديم ميزات ضريبية محفزة، وتسهيل إجراءات التصدير أمام الشركات الدوائية”.
في ظل التحديات الاقتصادية المتفاقمة، يُجمع معظم المعنيين بالشأن الصحي على أن القطاع الدوائي في سوريا بات بحاجة إلى تدخل عاجل، وإصلاحات جذرية، تبدأ من تسعير عادل وواقعي، ولا تنتهي عند دعم الإنتاج المحلي وحماية السوق من التهريب، فبقاء هذا القطاع صامداً هو شرط أساسي لبقاء الأمن الدوائي في البلاد، وهو ما يتطلب تحركاً حكومياً عاجلاً لإنقاذه من الانهيار.