أعلن حاكم مصرف سوريا المركزي، الدكتورعبد القادر حصرية أمس، عن منح البنوك السورية مهلة لا تتجاوز ستة أشهر لاستيعاب خسائر انكشافها على النظام المالي اللبناني، والتي تزيد قيمتها على 1.6 مليار دولار.
وجاء هذا القرار ضمن جهود رسمية تهدف إلى “تنظيف” القطاع المصرفي المتعثّر، المتأثر بالحرب والعقوبات الغربية وأزمة السيولة التي تعيق النشاط الاقتصادي.
إعلان هذا القرارمن قبل حاكم مصرف سوريا المركزي ، جاء نقلاً عن وكالة رويترز فقد أشارالدكتورحصرية، إلى أن بعض البنوك ذات الأصول اللبنانية هي الأكثر تضرراً، وأن هناك خططاً لجذب مستثمرين جدد ومنح تراخيص لبنوك أجنبية بهدف زيادة عدد المصارف العاملة في البلاد حتى عام 2030.
لكن، هذا القرارأثار مخاوف عدة، خصوصاً من حيث أثره على استقرارالقطاع المصرفي المحلي وقدرته على مواجهة أزمة السيولة المتفاقمة، وذلك من قبل مهتمين بالشأن الاقتصادي.
إجراء مقلق في هذا السياق، قدم الباحث الاقتصادي يونس رضوان الكريم، رأيه المفصّل لصحيفة الثورة حول المهلة الممنوحة للبنوك السورية للاعتراف بالخسائر، والتداعيات المحتملة على النظام المصرفي والاقتصاد السوري.
وقال: إن منح مهلة لا تتجاوز ستة أشهر للبنوك السورية للاعتراف بخسائرالإيداعات، تحت ذرائع غيرمبررة، يُعد إجراء مقلقاً ومخالفاً للمعايير الدولية، لا سيما معيار IFRS 9 الذي يفرض احتساب الخسائر الائتمانية المتوقعة على مدى 12 شهراً على الأقل، وقد تمتد لتغطي كامل مدّة العقد أو مدى الحياة حسب درجة التدهور.
وعليه، والكلام للباحث الاقتصادي، فإن هذه المهلة لا تمثّل معالجة فعلية، بل هو إعلان مبكر بالخسائر، ما يُضعف مبدأ الحيطة المحاسبية ويُعرض النظام المصرفي لمخاطر جسيمة.
مضيفاً أن حجم الخسائر المتراكمة في بعض المصارف السورية بات يتجاوز بكثير رأسمالها وحجم إيداعاتها، ما يفتح الباب أمام احتمالات الإفلاس أو التصفية، خاصة في ظلّ ما يُتداول عن تحصيل أموال من بنوك لبنانية كان يتم بطرق غير رسمية بعضها سياسي أو اقتصادي.
وقد يُمهّد هذا الواقع، كما يراه الباحث، لظهور أطراف جديدة تسعى لشراء حصص في المصارف الحكومية بأسعار متدنية، مستغلين حالة الغموض المؤسسي.
إذ إن اتخاذ قرار كهذا لا يندرج ضمن الصلاحيات الحصرية لحاكم مصرف سوريا المركزي، بل يتطلب وجود مجلس النقد والتسليف باعتباره الجهة المخولة بوضع السياسات النقدية ومتابعة الجهاز المصرفي وفقاً لقانون النقد الأساسي رقم 23 لعام 2002، ووجود مجلس الشعب أيضا لأنه قد يؤدي إلى بيع حصص من المصارف الحكومية وهذا يُعدّ من القرارات ذات الطابع السيادي، نظراً لتأثيره المباشرعلى القطاع العام المالي، لدراسته والمصادقة عليه، ضماناً للرقابة التشريعية وحمايةً للمصلحة الوطنية. وهذا ما يطرح عدة تساؤلات.. حول هوية الجهات المستفيدة من هذا الانهيار المُدار.
أما على صعيد الودائع الحكومية، والكلام للباحث الكريم، فالمسألة أكثر تعقيداً، إذ توجد ودائع تعود لبنكي التسليف والتجاري، وهما شريكان للبنوك اللبنانية، مما يضعها في دائرة الخطر ويلقي الضوء على كلام وزيرالمالية برنية حول إدارة القروض المتعثرة للقطاع المصرفي ودمج المصارف .
ويتابع الكريم: هناك ودائع حكومية أُودعت عبر مصرف سوريا المركزي وتُعد مضمونة نظرياً ، لكن دون وضوح في آليات الضمان والتنفيذ.
والأخطرهو ما يُعرف بـ”الودائع خارج المركزي”، وهي لم تُصرّح بها البنوك، وتدور حولها شبهات غسل أموال، ما يطرح تساؤلات حول قدرة المركزي على تغطية الأولى وملاحقة الثانية ومصادرها.
محذراً في الوقت نفسه من أن اختزال الأزمة في مهلة محاسبية شكلية يُنذر بفوضى بنكية ومالية، ويُهدد ما تبقى من ثقة في النظام المصرفي، ويُحمّل الدولة والمودعين كلفة الانهيار بدلاً من تحميلها للمسؤولين عن سوء الإدارة والتورط في شبهات التلاعب والفساد.
وعن أموال السوريين المودعة في المصارف اللبنانية، أشارالباحث في الشؤون الاقتصادية، إلى أن جزءاً كبيراً منها قد “تبخر” فعلياً، أو بات خارج متناول أصحابها نتيجة الانهيار المالي في لبنان منذ عام 2019.
وأن الرقم المتداول شعبياً ،يبلغ نحو 40 مليار دولار، إلا أن هذا يشمل ودائع رجال أعمال، تحويلات مغتربين، وأموال شركات سورية كانت تديرأعمالها عبرالنظام المصرفي اللبناني، وليس فقط انكشاف البنوك السورية الرسمية الذي لا يتجاوز 1.6 مليار دولاربحسب تصريحات حاكم مصرف سوريا المركزي.
المتبخرة فعلياً
مؤكداً أن قرار المصرف المركزي السوري بإلزام البنوك المحلية بتغطية كامل خسائرها في لبنان خلال مهلة لا تتجاوز ستة أشهر يضع المودعين السوريين في مواجهة منفردة مع الأزمة، من دون أي ضمانات أو دعم مؤسسي، ما يعني أن هذه الأموال باتت في حكم “المتبخرة” فعلياً.
ويشير يونس، إلى أن البنوك السورية ذات الأصول اللبنانية، مثل بنك سورية والمهجر وفرنسبنك، تواجه خطر الإفلاس نتيجة انكشافها الكبير على النظام المصرفي اللبناني، وهذا الانكشاف لا تُغطّيه المخصصات المالية الحالية، حتى تلك المحسوبة وفقاً لمعايير بازل 3، نظراً لعدم استنادها إلى القيمة الفعلية للأصول المجمدة في لبنان، ولم يوضح المركزي كيف ومن سيقوم بتغطية المخصصات المالية الجديدة لتغطية الخسائر، ما يفتح الباب أمام بيع أصولها أو دخول مستثمرين جدد في حال تعذر الامتثال أو استمرت حالة الانكشاف المالي.
كما أن البنوك الأخرى، بحسب الكريم، قد تواجه صعوبة في تكوين المخصصات المطلوبة دون المساس بسيولتها التشغيلية وأصولها، وحتى استخدام أموال المودعين بهذه المخصصات معتمدين على سياسات تجفيف السيولة، مما يهدد استقرار القطاع المصرفي ككل، ويجعل من خطة “تنظيف القطاع” خطوة محفوفة بالمخاطر ما لم تترافق مع إصلاحات هيكلية ودعم تشريعي وتمويلي واضح.
إعلان إفلاس
أما عن التأثيرات المحتملة على القطاع المصرفي، فيوضح الباحث الكريم، أن القرار سيزيد الضغط على السيولة الداخلية للبنوك التي تعاني أساساً من ضعف السيولة، مما قد يدفعها إلى بيع أجزاء من أصولها لتغطية خسائرها، وهذا قد يؤدي إلى إعلان إفلاس بعض البنوك، خصوصاً تلك التي تعتمد على العلاقات مع لبنان، مثل بنك المشرق وفرنسبنك وسوريا والمهجر.
مبيناً أن انخفاض قيمة الأصول وقوة البنوك المالية بعد التخصيص قد يدفعها إلى بيع حصص لمستثمرين جدد، ما سيؤدي إلى تغييرات كبيرة في القطاع المصرفي السوري، مع احتمال غياب الثقة في سوق الأسهم والبورصة، بالإضافة إلى تعقيد استخدام أنظمة تحويل الأموال عبر السويفت.
الكريم نبه إلى أن القرار قد يربك الاقتصاد السوري بشكل كبير خصوصاً أن البنوك ستتحمل خسائر كبيرة وفقاً للمعايير المحاسبية، مما قد يؤدي إلى تراجع نشاط الاستيراد والتصدير بسبب المخاطر التي تواجهها البنوك في تقديم خدماتها المستقبلية.
ويصف القرار بأنه يشكل نوعاً من المجاملة الدبلوماسية للجهات الحكومية المعنية المالية في سوريا على حساب أموال المودعين، مع الإشارة إلى أن الاقتصاد السوري سيتحمل تبعات خسارة أموال كبيرة لا تقل عن 40 مليار دولار، وهي قيمة تفوق بكثير قدرة البنوك السورية على تغطيتها.
مصرحاً أن قرار تجميد الأموال لتكوين المخصصات يفاقم أزمة السيولة ويحول البنوك إلى أزمة سيولة شديدة، ما يهدد الاقتصاد السوري المنهار، ويدخل البلاد في حالة عجز كلي، ويعارض خطة تنظيف الاقتصاد التي تحتاج إلى بنية قانونية متكاملة وخطة تشريعية واضحة.
ويختتم الكريم، بالإشارة إلى أن خطة المركزي لمضاعفة عدد البنوك بحلول 2030 تبدو غير واقعية في ظل استمرار العقوبات الغربية والبيئة السياسية والأمنية المتوترة، إضافة إلى غياب البنية القانونية التي تحمي القطاع المصرفي، مما يجعل من فتح سوق مصرفي جديد تحدياً كبيراً، ويجعل من السياسة النقدية والمالية غير واضحة، مما ينفر المؤسسات المالية من الاستثمار والعمل في سوريا.
إنقاذ لبنان.. وإغراق سوريا
ولكن قبل الانتهاء وفي تعقيب لافت، لايمكن تجاهله، يشير الباحث الاقتصادي، إلى أن القرار الأخير للمركزي السوري، جاء في توقيت حساس، تزامن مع الحديث عن نية سعودية – قطرية لدعم النظام المالي اللبناني، ما يطرح تساؤلات حول البُعد الإقليمي للقرار السوري.
ويقول الكريم: “لإنقاذ المصارف اللبنانية، أعلن قرار منفرد من حاكم المصرف المركزي، دون الرجوع إلى مجلس النقد والتسليف أو مجلس الشعب، وبمبالغ تتراوح بين 1.6 مليار و40 مليار دولار، تحت شعار رمزي مفاده: المسامح كريم.
ويتابع: “ورغم المبادرة الطيبة لهذا الشعار، إلا أن القرار يهدد بتدمير ما تبقى من الثقة في القطاع المصرفي السوري، وهي الثقة التي تعاني أساساً من الضعف، إذ تعجز بعض المصارف عن صرف أكثر من 100 دولار شهرياً للمودعين، فكيف يمكن بناء منظومة مصرفية متينة أو عملة مستقرة في ظل هذه الظروف؟.”