لطالما كان القمح في سوريا أكثر من مجرد محصول زراعي؛ إنه رمز للسيادة الغذائية، وركيزة من ركائز الاقتصاد الريفي، وذاكرة جماعية ترتبط بالرغيف اليومي الذي لا يغيب عن مائدة السوريين.
لكن الحرب التي شنها النظام البائد على شعبه قلبت المعادلة، فالمساحات التي كانت تفيض بالسنابل تحولت إلى مناطق نزاع، والإنتاج الذي كان يكفي ويزيد بات عاجزًا عن سد الحاجة، فيما أصبح الرغيف يُستورد بدل أن يُزرع.
في هذا التقرير، نعيد رسم خريطة القمح السوري عبر ثلاث مراحل أساسية:
قبل 2011: حيث كانت سوريا من الدول المصدّرة للقمح، والمساحات المزروعة واليد العاملة في ذروتها.
خلال سنوات 2011-2024: حين احترقت السنابل تحت النار، وتراجع الإنتاج، وبدأت رحلة الاستيراد من الخارج.
2025: حيث تُطرح الأسئلة الكبرى: هل يمكن أن تنمو السنابل من تحت الرماد؟ وهل يعود الرغيف محليًا؟
كما يستعرض التقرير توصيات خبراء الزراعة حول سبل إعادة إعمار هذا القطاع الاستراتيجي، وتشجيع الفلاحين، وتفعيل الدعم الحكومي، في محاولة لاستعادة ما فقدته سوريا من أرض وكرامة غذائية.
في عام 2010، كانت سوريا تُعد من الدول الزراعية الرائدة في إنتاج القمح، حيث شكّل هذا المحصول حجر الأساس في الأمن الغذائي الوطني، ومصدرًا مهمًا للدخل الريفي.
من الاكتفاء إلى الاستيراد: انهيار منظومة القمح بعد 2011
وفقًا لبيانات وزارة الزراعة السورية وتقارير بحثية منشورة في جامعة تشرين، بلغ إجمالي إنتاج القمح في سوريا نحو 4 ملايين طن سنويًا، وهو ما كان يكفي لتغطية الاحتياج المحلي ويتيح فائضًا للتصدير. وبلغت المساحة المزروعة بالقمح في سوريا عام 2010 حوالي 1.7 مليون هكتار، موزعة بين الزراعة البعلية والمروية على النحو التالي:
القمح المروي: شكّل نحو 44.8% من إجمالي المساحة المروية في البلاد، بمعدل نمو سنوي بلغ 10.6%، وكان يُزرع بشكل رئيسي في مناطق حوض الفرات والغاب وحمص، حيث تتوفر شبكات الري المنظمة.
القمح البعلي: شكّل حوالي 20.5% من إجمالي الأراضي البعلية، بمعدل نمو سنوي متواضع بلغ 1.2%، ويُزرع غالبًا في المناطق الشمالية الشرقية والجنوبية، ويعتمد على الأمطار الموسمية.
كانت سوريا تنتج نوعين رئيسيين من القمح:
القمح الطري: المستخدم في صناعة الخبز، ويشكل النسبة الأكبر من الإنتاج.
القمح القاسي (الصلب): المستخدم في صناعة المعكرونة والبرغل، ويُزرع بشكل خاص في المناطق ذات المناخ الجاف.
قطاع القمح كان يشغّل مئات الآلاف من العمال الزراعيين، سواء بشكل مباشر في الزراعة أو في سلاسل النقل والتخزين والطحن.
قبل 2011، كانت سوريا تمتلك بنية زراعية متماسكة في قطاع القمح، مدعومة بمساحات واسعة، إنتاج وفير، دعم، ويد عاملة نشطة. هذا الواقع تغيّر جذريًا بعد عام 2011، حيث تراجعت المساحات، وتدهور الإنتاج، وبدأت البلاد تعتمد على الاستيراد لتأمين الرغيف.
بعد 2011 والحرب التي تلت اندلاع الثورة، تراجعت الإنتاجية بشكل حاد، وتقلصت المساحات المزروعة، وتحوّل الرغيف من رمز للاكتفاء إلى ورقة ضغط اقتصادي واجتماعي. الحرب لم تدمّر الحقول فحسب، بل عطّلت سلاسل الإنتاج، وأجبرت البلاد على استيراد ما كانت تنتجه محليًا.
تراجعت المساحات المزروعة بالقمح بمعدل سنوي بلغ -6,886 هكتار خلال سنوات الحرب، مقارنة بـ -6,918 هكتار قبلها، وبحسب تقرير لمنظمة الأغذية والزراعة وانخفض إنتاج القمح في بعض السنوات إلى أقل من 271 ألف طن، أي ما يعادل 7% فقط من الاحتياج المحلي. مع انهيار الإنتاج، لجأت سوريا إلى الاستيراد لتأمين حاجتها من القمح، والتي تُقدّر بنحو 1.5 مليون طن سنويًا.
أما أبرز الدول التي استوردت منها سوريا القمح خلال الحرب كانت:
روسيا: المورد الرئيسي، بعقود حكومية مباشرة
رومانيا وأوكرانيا: عبر وسطاء وشركات خاصة
مصر ولبنان: بكميات محدودة لإعادة التصدير
وتُقدّر قيمة الاستيراد السنوي للقمح بنحو 300 إلى 400 مليون دولار، وفق تقارير اقتصادية سورية.
تسببت الحرب في نزوح آلاف الفلاحين من مناطق الإنتاج الرئيسية كالحسكة ودير الزور، ما أدى إلى انكماش اليد العاملة الزراعية بنسبة تفوق 60%، وفق تقديرات غير رسمية.
كما فقدت البلاد خبرات فنية وإدارية كانت تدير قطاع القمح بكفاءة قبل الحرب. وارتفع سعر ربطة الخبز المدعوم تدريجيًا من 15 ليرة عام 2011 إلى 200 ليرة عام 2020، ثم إلى 500 ليرة عام 2022، بنسبة ارتفاع تجاوزت 3,000% خلال عقد. وفي عام 2020، بدأت حكومة النظام البائد تخصيص عدد الأرغفة لكل أسرة عبر ما يسمى “البطاقة الذكية”، حيث حُددت الحصة اليومية بـ 4 أرغفة للفرد، تُوزّع وفق عدد أفراد الأسرة، في محاولة لضبط الاستهلاك وتقليل الهدر.
يمكن القول إن أبرز التحديات التي واجهت زراعة القمح أثناء الحرب شملت:
غياب الأمن في مناطق الإنتاج.
تدمير البنية التحتية الزراعية.
نقص المحروقات والأسمدة والبذار المحسّن.
ارتفاع تكاليف النقل والتخزين.
تراجع الدعم الحكومي المباشر للفلاحين.
مع إعلان نهاية حقبة الأسد في أواخر عام 2024، بدأت الحكومة السورية الجديدة تتحدث عن إعادة بناء القطاع الزراعي، واضعة زراعة القمح في صدارة أولوياتها باعتباره حجر الأساس في الأمن الغذائي الوطني. إلا أن الواقع الميداني لا يزال هشًا، والإنتاج المحلي بعيد عن مستويات ما قبل الحرب، وسط تحديات مناخية واقتصادية واستيرادية متراكمة.
عجز حاد في الإنتاج
في تقرير صدر عن منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة (الفاو) في يونيو 2025، حذّرت المنظمة من أن سوريا تواجه نقصًا في القمح يُقدّر بنحو 2.73 مليون طن هذا العام، وهو ما يكفي لإطعام نحو 16 مليون شخص لمدة عام. وبحسب تصريحات مسؤول حكومي سوري، فإن الحكومة تحتاج إلى استيراد نحو 2.55 مليون طن لتغطية هذا العجز، لكنها لم تعلن حتى الآن عن أي صفقات كبيرة، وتعتمد على شحنات صغيرة لا تتجاوز 200 ألف طن، تُورّد عبر عقود مباشرة مع مستوردين محليين.
الفاو أشارت أيضًا إلى أن 40% فقط من الأراضي الزراعية تمّت زراعتها هذا الموسم، فيما أتلف الجفاف مساحات واسعة، خاصة في المحافظات الرئيسية المنتجة للغذاء مثل الحسكة وحلب وحمص. ورغم هذه الظروف، شجعت الحكومة المزارعين المحليين على بيع ما تبقى من محاصيلهم بسعر 450 دولارًا للطن، أي أعلى بنحو 200 دولار من سعر السوق، في محاولة لتحفيز الإنتاج المحلي.
خلال الأشهر الأولى من التحرير، تلقت سوريا مساعدات طارئة محدودة، شملت:
220 ألف طن من القمح من العراق.
500 طن من الدقيق من أوكرانيا.
وفي أبريل 2025، وصلت شحنة قمح روسية وحيدة إلى ميناء اللاذقية، تزن نحو 6,600 طن، لكنها وُصفت بأنها “استثنائية” وليست ضمن خطة توريد منتظمة، ما يعكس استمرار تعثر العلاقات التجارية مع موسكو.
وفي سبتمبر 2025، طرحت المؤسسة العامة السورية للحبوب مناقصة دولية لاستيراد كمية تُقدّر بـ200 ألف طن من القمح الطري المخصص لصناعة الخبز، بهدف سد جزء من الفجوة الغذائية. لكن حتى نهاية الشهر، لم تُبرم أي صفقة ضمن هذه المناقصة.
غم انتهاء الحرب، لا تزال سوريا تواجه معركة قاسية في سبيل تأمين القمح، بين إنتاج محلي متراجع، واستيراد متعثر، ومساعدات محدودة. ويبقى السؤال مفتوحًا: هل تستطيع الحكومة الجديدة تحويل الوعود إلى سياسات فعالة تعيد للسنابل السورية قدرتها على الإشباع؟ وكيف يمكن تحقيق ذلك.
إقصاء متعمد
الخبير الزراعي أكرم عفيف قال: إن محصول القمح في سوريا مرّ بمرحلتين أساسيتين قبل عام 2011، أولاهما جاءت بعد الحصار الاقتصادي في الثمانينات، حيث تم التركيز على زراعة القمح بشكل واسع، مدفوعة بسياسة تسعير مجزية للفلاحين، واختيار أصناف مناسبة، إلى جانب ظروف مناخية مواتية ساعدت على نجاح الزراعة الشتوية حتى في الأراضي غير المخصصة لها.
وأشار عفيف إلى أن القمح لم يكن مجرد مصدر للخبز والطحين، بل شكّل أيضًا علفًا أساسيًا للأبقار والأغنام، ما جعله جزءًا من منظومة الأمن الغذائي. ولفت إلى أن أزمة التبن قبل الثمانينات دفعت البعض إلى خلطه بالحنطة لتغذية المواشي، في وقت أصبحت فيه الحنطة أرخص من التبن.
وانتقد عفيف النظرة الضيقة للحكومات السابقة، والتي حصرت أهمية القمح في إنتاج الخبز، ما أدى إلى كوارث اقتصادية، خاصة عندما قورنت أسعار القمح المحلي بالمستورد، فتم خفض سعر الشراء من الفلاحين، ما تسبب بعزوفهم عن الزراعة. لكن لاحقًا، بعد إدراك أهمية الملف، اشترت الحكومة القمح من الفلاحين بأسعار تفوق سعر الرغيف، ما أدى إلى تراكم مخزون استراتيجي يكفي لخمس سنوات، حتى بات يُخزن في الأنفاق.
وأكد عفيف أن الفلاح السوري قادر على إدارة أرضه وموارده بذكاء، إذا ما تم رفع سعر المحصول، مشددًا على دور الدولة في إدارة المياه وتوفير الأسمدة والمحروقات والبذار، إضافة إلى بناء السدود التي لم تُستثمر بالشكل الأمثل، بسبب الفساد أو ضعف الخبرة، رغم الاستنفار الحكومي لتأمين بدائل زراعية ودعم القطاعين النباتي والحيواني.
وفي منطقة الغاب، شيّدت نحو خمسة سدود، أبرزها سد زيزون الذي انهار عام 2002 نتيجة ضعف الدراسات، إلى جانب ثلاثة سدود في أفاميا، اثنان منها فاشلان، والثالث خُفّضت سعته بعد التنفيذ ليُستخدم لتغذية الآبار السطحية. ورغم ذلك، استمر التوجه نحو الزراعة، ما جعل القمح يُصنّف كمحصول استراتيجي، قبل أن يتحول إلى “كارثة حقيقية” بسبب تراجع الاهتمام به.
وخلال سنوات الحرب التي شنها نظام الأسد على شعبه، واجه القمح تحديات كبيرة أبرزها فقدان الأمان، والتهجير القسري للفلاحين، والجفاف الذي ضرب الأراضي البعلية، إلى جانب استمرار سياسة التسعير غير المجزية، حيث كانت الحكومات السابقة تسعر القمح بأقل من تكاليف إنتاجه. أما الحكومة الحالية، فقد منحت 150 دولارًا إضافيًا للطن فوق السعر المعلن، لكنه لا يزال غير كافٍ، خاصة مع انخفاض الإنتاج.
وأضاف عفيف أن الحصار وارتفاع تكاليف الإنتاج الزراعي، وغياب التمويل الشامل للقطاع، زاد من صعوبة الزراعة، إذ اقتصر الدعم على السماد والبذار، بينما بقي الفلاح دون دعم في تأمين الحصادات والجرارات والعمال والمبيدات.
كما أثرت الحرب على المساحات المزروعة، وترك الفلاحون أراضيهم، ما دفع حكومة النظام البائد إلى طرحها كضمانات للاستثمار، لكن الفساد والمافيات دخلت على الخط، واستولت على الأراضي بأسعار بخسة، قبل أن تبدأ المنافسة لاحقًا على استئجارها بأسعار أعلى، وسط استمرار الفساد في إدارة المساحات الزراعية.
ورغم أن سوريا كانت تاريخيًا من الدول المنتجة للقمح، إلا أن السياسات الاقتصادية المتبعة خلال العقود الماضية، ولا سيما في عهد النظام البائد، ساهمت في تهميش هذا المحصول الاستراتيجي لصالح الاستيراد، الذي تحوّل إلى باب واسع للفساد بحسب عفيف. فقد كانت سوريا تستورد القمح من روسيا، في وقت كان فيه المنتج المحلي يُقصى عمدًا، تحت ذريعة أن السعر العالمي أرخص من المحلي، وهو منطق تبنّاه بعض المسؤولين آنذاك لتبرير تجاهل الفلاحين، ما أدى إلى تدمير الإنتاج المحلي لصالح المستوردين وشركائهم من المسؤولين الفاسدين.
ولم يكن القمح وحده ضحية هذه السياسات، فمحصول الشوندر السكري أيضًا تعرّض للإهمال، حيث كانت نواتجه تُستخدم كعلف للأغنام طوال الشتاء، وبعد إلغاء زراعته، ارتفعت أسعار البدائل، ما ألحق خسائر كبيرة بقطاع الثروة الحيوانية، وهو ما انسحب لاحقًا على القمح أيضًا.
من الاكتفاء إلى الاستيراد
أما على صعيد التمويل، فقد شهد الموسم الماضي صفقة فساد واضحة في ملف السماد وفقًا للخبير عفيف، حيث اشترت المصارف الزراعية كيس السماد بسعر 535 ألف ليرة (نحو 50 دولارًا)، بينما كان متاحًا في القطاع الخاص بـ225 ألف ليرة فقط. هذا الفارق الكبير ذهب لجيوب الفاسدين، فيما اضطر الفلاح لشراء السماد بالسعر المرتفع كونه ممولًا كدين من المصارف الزراعية، في صفقة تورط فيها مستوردون ومسؤولون على حد سواء.
وأضاف عفيف: اليوم، تواجه الأراضي الزراعية خطر التوقف عن الإنتاج، إذ أن معظمها غير مفلوح بسبب ارتفاع التكاليف، خاصة فيما يتعلق بزراعة القمح. ويُضاف إلى ذلك ضعف الإنتاجية، نتيجة غياب الاهتمام بنوعية البذار، في وقت تُقاس فيه إنتاجية القمح عالميًا بوحدة المساحة، وهو ما لا يُراعى محليًا.
وبيّن عفيف أن الاستيراد لم يكن خيارًا اقتصاديًا في زمن النظام البائد، بل سياسة ممنهجة تخدم مصالح الفساد، حيث تم دعم المستوردات بدلًا من دعم الصادرات، ووُضع دولار خاص للاستيراد، ما زاد من تشوّه السوق المحلي.
ونبّه إلى أن إعادة تأهيل القطاع الزراعي ليست مهمة سهلة في ظل الواقع الاقتصادي الهشّ الذي تعيشه البلاد، فالمساحات المزروعة بالقمح تتراجع، والزراعات البعلية مهددة بالتوقف، بينما تتجه زراعات السقي نحو محاصيل أخرى أكثر ربحًا، نظرًا لغياب الدعم والتمويل لمحصول القمح، ويُضاف إلى ذلك غياب نظام تأمين زراعي ضد الجفاف أو الحريق، ما يجعل الفلاح في مواجهة الخسارة المؤكدة، ويدفعه للتخلي عن الإنتاج، كما حدث فعلًا في مواسم سابقة.
وخلاصة القول، لم يعد محصول القمح في سوريا مجرد مسألة زراعية، بل ملف استراتيجي يرتبط بالأمن الغذائي والثروة الحيوانية معًا، لذا فإن إعادة الاعتبار لهذا المحصول تبدأ من دعم الفلاح، وتوفير التمويل، وتقليل التكاليف، وتطوير البذار، ووضع سياسات تحمي المنتج المحلي من منطق الاستيراد الذي أثبت فشله.
وسيم إبراهيم
نون بوست