لماذا يرتفع الذهب.. وهل يواصل الصعود؟

ارتفاعات الذهب ليست نتيجة خفض الفائدة فقط، بل ثمرة تراكم عوامل هزّت الثقة في الاقتصاد العالمي: اضطرابٌ تجاري ونقدي، وتوتّرات جيوسياسية متصاعدة، وتراجعٌ في التزامات الدول أصاب قواعد العولمة وحرّية التجارة بالضعف.

وعلى مدى السنوات الأخيرة، وبوضوحٍ أكبر في 2025، تفاقمت مشكلات بنيوية: ديونٌ تتضخّم بسرعة، إنتاجيةٌ ضعيفة، وسياساتٌ نقدية فقدت كثيرًا من تأثيرها فابتعدت الأموال تدريجيًا عن الأصول الورقية واتجهت إلى الأصول الملموسة وفي مقدّمتها الذهب، حتى صار كثيرون يصفون ذلك عمليًا بشعار “التخلّص من العملات الورقية”.

يشرح هذا المقال لماذا يزداد فقدان الثقة في العملات الورقية، ولماذا اكتسب الذهب هذا الزخم، وذلك عبر محورين: أولًا مستويات الدَّين العالمي المرتفعة بأمثلة واضحة من اقتصادات كبرى، وثانيًا فحص لأهم مؤشرات الاقتصاد الأميركي بوصفه مركز الثقل عالميًّا ومصدر عدوى لبقية العالم، وفي ضوء ذلك نجيب ببساطة: لماذا تتزايد حالة عدم الثقة؟ ولماذا يميل الذهب إلى الصعود على المدى المتوسط والطويل؟

 
أولًا: الدين العالمي… أصل الخلل البنيوي 

منذ أزمة 2008، انزلق الاقتصاد العالمي إلى نمط نموٍّ قائم على الاستدانة أكثر من اعتماده على الإنتاجية الفعلية، فـكفاءة كل وحدة دين في توليد الناتج باتت أدنى ممّا كانت قبل عقدٍ ونصف وبأحدث القراءات، يُقدَّر الناتج المحلي الإجمالي العالمي (بالأسعار الجارية) بنحو 113.8 تريليون دولار في 2025، بينما بلغ إجمالي الدَّين العالمي قرابة 337.7-338 تريليون دولار في الربع الثاني 2025 أي إن الدَّين يناهز ثلاثة أضعاف الناتج العالمي 300%، مع فجوةٍ تقارب 224 تريليون دولار بين الدَّين وما ينتجه العالم فعليًّا، وفوق ذلك استدان العالم قرابة 21 تريليون دولار في النصف الأول من 2025 فقط.
قفزةٌ استثنائية تُجسِّد تسارع الاعتماد على الاقتراض، فتاريخيًّا، تضخّم الدَّين من نحو 158 تريليونًا في 2010 إلى 199 تريليونًا في 2015 ثم 307 تريليونات في 2023 قبل ملامسة 338 تريليونًا في 2025 أي نموًّا يقارب 70% منذ 2015 و114% منذ 2010، بما يرسِّخ أن الخلل بنيويٌّ ومتراكم لا ظرفيّ، وإنّه ارتفاع غير مسبوق في التاريخ الحديث، لم تَسْلَم منه أي كتلة اقتصادية.

أمثلةٌ دولية تُشير إلى عمق أزمة الديون:

1- الصين 

حسب أحدث تقديرات معهد التمويل الدولي ومصادر اقتصادية متخصّصة، يُقدَّر إجمالي الدين الصيني ” والمكون من الدين الحكومي وديون الشركات والأسر” بنحو 290-310% من الناتج المحلي الإجمالي، وهو أعلى مستوى تاريخيًا، ويبلغ الدين الحكومي قرابة 88% من الناتج، فيما يتجاوز دين القطاع الخاص “الشركات والأُسر” 200% ويصل تقريبيًا إلى 200-220%.
وللمقارنة، لم تتجاوز النسبة الإجمالية نحو 140% في عام 2008، ما يعني أنّها تضاعفت أكثر من مرّتين خلال 15 عامًا، في دلالة على اعتمادٍ متزايد على الائتمان، خصوصًا عبر الشركات والحكومات المحليّة
وبالتحويل إلى القيم الدولارية مع اعتماد ناتج اسمي بين 17.8 و18 تريليون دولار، يُقدَّر إجمالي الدين الكلّي بنحو 52-56 تريليون دولار- تتغيّر التقديرات تبعًا لسعر الصرف.
وبهذه الأحجام، تُعدّ الصين ثاني أكبر كتلة مديونية في العالم بعد الولايات المتحدة، كما أنّ نسبة دينها إلى الناتج تفوق معظم الاقتصادات المتقدّمة رغم كونها اقتصادًا ناشئًا.

2- الهند

بلغ الدين الحكومي العام نحو 83% من الناتج المحلي، ما يعادل 3.6 تريليون دولار، إلا أنّه ممول محليًّا في معظمه، ما يمنح الهند قدرًا من المرونة التمويلية مقارنة بغيرها من الاقتصادات الناشئة.

3- بريطانيا

يبلغ الدين السيادي نحو 3.2 تريليون جنيه إسترليني، وارتفعت نسبة الدين العام من نحو 40% من الناتج قبل أزمة 2008 إلى قرابة 104% في عام 2025، كما تجاوزت ديون الأسر والشركات غير المالية 117% من الدخل المتاح، أي نحو 3.16 تريليون جنيه.
وفي أغسطس 2025، تحمّلت الحكومة ديونًا جديدة بقيمة 18 مليار جنيه، وهي الأعلى منذ 5 سنوات متجاوزةً التوقعات الحكومية بـ 12.5 مليار جنيه.
وخلال الأشهر الخمسة الأولى من السنة المالية، بلغ الاقتراض 83 مليار جنيه، وهو ثاني أعلى مستوى منذ 1993 بعد الجائحة وبلغت نسبة الدين العام 96% من الناتج المحلي، وهي نسبة لم تُسجَّل منذ عقودٍ.

4- فرنسا

بلغ الدين الحكومي نحو 3.346 تريليون يورو، أي حوالي 115% من الناتج المحلي الإجمالي، في منتصف 2025، وذلك مقارنةً بـ 1.59 تريليون يورو، أي نحو 82.4%، في 2010.
وبلغ دين القطاع الخاص نحو 4.3 تريليونات يورو، أي نحو 150% من الناتج، بعد أن كان بين 2.7 و3 تريليونات يورو في 2010، أي بزيادة تتجاوز 1.3 تريليون يورو خلال 15 عامًا، في وتيرةٍ تُجسّد تسارعًا غير مسبوق في المديونية الفرنسية.

5- إيطاليا

بلغ الدين الحكومي إلى 2.85 تريليون يورو، أي حوالي 135% من الناتج المحلي الإجمالي، مقابل نحو 1.85 تريليون يورو، أي نحو 118%، في 2010، أي بارتفاع بأكثر من تريليون يورو.
وبلغ دين القطاع الخاص نحو 1.26 تريليون يورو، أي قرابة 58% من الناتج، في اقتصادٍ يعاني نموًّا راكدًا واعتمادًا كبيرًا على التمويل الحكومي

6- المانيا

بلغ الدين الحكومي 2.69 تريليون يورو في 2024، أي حوالي 62.5% من الناتج المحلي الإجمالي، في حين بلغ دين القطاع الخاص نحو 3.6 تريليونات يورو، أي قرابة 83% من الناتج المحلي الإجمالي، وهو مستوى أعلى ممّا كان عليه بين 2010 و2015، في حين ساعد النموّ المستقر وأسعار الفائدة المنخفضة في احتوائه.

7- اليابان 

بلغ الدين الحكومي نحو 10 تريليونات دولار، أي حوالي 235% من الناتج المحلي الإجمالي المقدّر بـ 4.2 تريليونات في 2025.
بينما بلغت ديون القطاع الخاص “الشركات والأسر والمؤسسات المالية” نحو 7 تريليونات دولار، أي حوالي 170% من الناتج المحلي الإجمالي، لتظلّ اليابان الأكثر مديونيّةً بين الاقتصادات المتقدّمة.

8- اسبانيا

بلغ الدين الحكومي 1.56 تريليون يورو في منتصف 2025، فيما اقترب دين القطاع الخاص من 1.4 تريليون يورو، ليبلغ إجمالي المديونية العامة والخاصة نحو 3 تريليونات يورو وهو أعلى مستوى منذ أزمة الديون الأوروبية عام 2012، في ظل ارتفاع كلفة التمويل وتباطؤ الطلب المحلي.

9- كندا

بلغ الدين العام الإجمالي 2.5 تريليون دولار كندي، أي نحو 1.8 تريليون دولار أميركي، ما يعادل حوالي 112% من الناتج المحلي الإجمالي، بينما وصلت ديون الأسر إلى 180% من الدخل المتاح وهي من الأعلى عالميًّا ما يجعل الاقتصاد الكندي حسّاسًا لارتفاع أسعار الفائدة.

10- كوريا الجنوبية 

بلغ إجمالي الدين العام والخاص نحو 260% من الناتج المحلي، منها ديون الأسر بأكثر من 104% من الناتج، وهي من الأعلى في آسيا وتضغط على الطلب المحلي والاستهلاك.

11- البرازيل

بلغ الدين الحكومي نحو 90% من الناتج المحلي الإجمالي، مع معدّلات فائدة حقيقية تتجاوز 10%، ما يجعل خدمة الدين عبئًا متزايدًا يلتهم جزءًا متصاعدًا من الموازنة الفدرالية

من بكين إلى لندن، ومن باريس إلى ساو باولو، تتّضح ملامح أزمة مديونية عالمية عميقة هيكلية في جوهرها، فالعالم يعيش اليوم على دينٍ يتضخّم أسرع من قدرته على الإنتاج، وفوائدٍ تُعاد تسعيرها عند مستويات أعلى، وحيّزٍ ماليّ يضيق عامًا بعد عام.
وهكذا يصبح انتقال الأموال إلى الأصول الملموسة وعلى رأسها الذهب كرد فعل لاقتصادات تسير بقوة الدين.
ثانيًا: الاقتصاد الأميركي.. مركز التأثير العالمي

تُبيّن المقارنات التاريخية أن الذهب مرآةٌ لحالة الاقتصاد الأميركي، فحركته ارتبطت دائمًا بالمسارات الاقتصادية والنقدية الكبرى.
ففي ولاية ترامب الأولى، ارتفع الذهب 54%، وفي فترة بايدن 38%، بينما حقق منذ بداية ولاية ترامب الثانية “من 21 يناير 2025” نحو 60% حتى منتصف أكتوبر، على أن قرابة 45% من هذه المكاسب جاءت قبل إعلان الفيدرالي خفض الفائدة دلالةً على دوافع هيكلية حرّكت الأسعار قبل القرار النقدي.
ومن منظورٍ أوسع، ارتفع الذهب من قرابة 1210 دولارات للأونصة في 2017 إلى نحو 4200 دولار في منتصف أكتوبر 2025، بزيادة تقارب 2990 دولارًا، أي نحو 247%.
وهذه النِّسَب تراكمية تُحتسب على مستويات أسعارٍ متغيّرة، وليست جمعًا مباشرًا للنِّسَب بين الفترات، كما سجّلت الأسابيع الأخيرة من 2025 تدفّقات قياسية إلى الذهب والفضة بلغت 34 مليار دولار، ما يؤكد أن اختلالات الاقتصاد الأميركي تنعكس سريعًا في سعر الذهب وتغذّي زخمه الصاعد.

الدين الأميركي: 

هذا وبلغ إجمالي الدين العام الأميركي 37.9 تريليون دولار، ويزداد الدين بمعدلٍ يقارب 25 مليار دولار يوميًا، أي نحو 17.4 مليون دولار في الدقيقة.
ومنذ يوليو وحده، ارتفع الدين 1.7 تريليون دولار، أي ما يقارب 425 مليار دولار شهريًّا، مع تقديراتٍ بوصوله إلى 40 تريليون دولار بحلول 2026.
وارتفعت نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي إلى 124% الأعلى منذ 2021، بما يعني أن الدين العام بات يتجاوز حجم الاقتصاد الفعلي، في سابقةٍ تُنذر بانفلات مالي يصعب احتواؤه.
وإذا نظرنا إلى دين القطاع الخاص الأميركي، نجد أن ديون الشركات غير المالية تقارب 14.7 تريليون دولار، فيما تبلغ ديون الأُسر من رهونٍ عقاريةٍ وقروضٍ وبطاقات ائتمان نحو 17.5 تريليون دولار أي بإجمالي 32.3 تريليون دولار، وبذلك يصل إجمالي الدين الأميركي “عامًّا وخاصًّا” إلى نحو 70 تريليون دولار، أي قرابة 270% من الناتج المحلي الإجمالي، ما يعني أن ضغوط الفائدة وإعادة التسعير لا تطال الموازنة الفيدرالية وحدها، بل تخترق الاقتصاد الحقيقي عبر ارتفاع كلفة تمويل الشركات وتآكل القدرة الشرائية للأُسر.

إعادة التمويل وكلفة الفوائد

ويتقاطع هذا الوضع مع حائط إعادة تمويلٍ ضخم، إذ يتعيّن على الخزانة والشركات الأميركية تسديد أو إعادة إصدار نحو 9 تريليونات دولار من السندات خلال الفترة المقبلة، ما يعني إصدار أدوات دين جديدة بعوائد أعلى، وبالتالي ارتفاع كلفة خدمة الدين بشكلٍ حادّ. وقد تجاوزت مدفوعات الفوائد السنوية حاجز التريليون دولار، أي ما يُعادل قرابة 13% من إجمالي المصروفات الفيدرالية، وقرابة 18% من الإيرادات الحكومية، ما يُشكّل عبئًا ثقيلًا على الموازنة ويُقلّص الحيّز المالي المتاح للإنفاق الاستثماري والبرامج الاجتماعية.
وكلّ دولارٍ يُعاد تمويله بعائدٍ أعلى يُترجم إلى اتّساعٍ في بند الفوائد، وضيقٍ في المجال المالي، ومزيدٍ من الاعتماد على الاقتراض يضعف الثقة في استدامة المالية العامة الأميركية.

مؤشرات أميركية أخرى

وعلى مستوى الاقتصاد الحقيقي، ارتفع الائتمان الاستهلاكي في يوليو بـ 16 مليار دولار إلى 5 تريليون دولار، أي ثالث أعلى مستوى تاريخي، وزاد خلال 5 أشهر بـ 103 مليار دولار، كما ارتفعت ديون بطاقات الائتمان بمقدار 10 مليارات إلى 1.3 تريليون، وبلغ التخلّف عن السداد في بطاقات الائتمان 12% في الربع الثاني 2025، وهو الأعلى منذ 2011، وسجّلت قروض السيارات عالية المخاطر تعثّرًا عند 5% لأول مرّة تاريخياً متجاوزة مستويات 2008، وقفز تعثّر الرهون التجارية للمكاتب إلى 11%، وهو الأعلى على الإطلاق.

هذا وتراجعت درجات الائتمان للأميركيين بأسرع وتيرة منذ الركود العظيم، أي بانخفاض نقطتين خلال العام، وبلغت القروض الطلابية الفدرالية المتأخرة 11.3% في الربع الثاني 2025.

وتراجع معدل التوظيف إلى 3%، وهو الأدنى منذ عقد، وارتفعت احتمالية فقدان الأميركيين لوظائفهم خلال السنوات الخمس المقبلة إلى 22.9% في أكتوبر، ثاني أعلى نسبة منذ الجائحة، وثالث أكبر قراءة منذ أزمة 2008.

كما يتوقع 63% من الأميركيين ارتفاع البطالة خلال الـ 12 شهرًا المقبلة، وهو ثالث أعلى مستوى منذ 2009، وضعف النسبة المُسجّلة في ديسمبر 2024 بينما بلغ معدل البطالة لدى الخريجين الجدد “22-27 عامًا” نحو 4.8%.

وفي المقابل، قفزت أسعار الغذاء والاحتياجات اليومية بين 6% و20% في الأسابيع الأخيرة، مما ضغط على القدرة الشرائية للأسر ورفع مستويات التضخم وأضعف ثقة المستهلك، وهبط مؤشر مجلس المؤتمرات الاقتصادي وهو مؤشر مركّب يُستخدم لاستشراف الاتجاهات المستقبلية بنسبة 6% في أغسطس إلى أدنى مستوى في عقدٍ كامل.

ومن ناحية أخرى، أشار تقرير البيج بوك الأخير إلى أن 5 مناطق فيدرالية من أصل 12 تعاني من تراجع في الإنفاق الاستهلاكي، وأن بعض المناطق الصناعية والزراعية تتأثر بالتعريفات الجمركية، وكلا التقريرين يعتمد عليهما الفيدرالي في قراءته للاقتصاد.

هذه المؤشرات تُنذر مبكرًا بـركود تضخّمي وضعفٍ استهلاكي مع ديونٍ ضخمة بلا إصلاحات واضطرابٍ تجاري، ما قاد إلى تراجع الثقة في مستقبل الدولار ونتيجةً لذلك تفاقم الاختلال البنيوي في أكبر اقتصادٍ بالعالم، فاتجه المستثمرون إلى الذهب كملاذٍ آمن تحسّبًا لتدهورٍ أكبر في الأوضاع

وختامًا: ما نراه في أسواق المعادن، وعلى رأسها الذهب، ليس ظاهرة عابرة، بل نتيجة مباشرة لاختلالاتٍ عميقة في بنية الاقتصاد العالمي والامريكي، وإعادة تسعيرٍ صريحةٍ لقواعد اللعبة النقدية ومع اتّساع فجوة الديون وضعف الإنتاجية وتراجع الثقة بالأصول الورقية لمختلف الدول، بات التحوّطُ بالذهب سلوكًا منطقيًا..

يبقى السؤال هنا في ظل هذه الاختلالات: إلى أي مدى سيواصل الذهب ارتفاعه على المدى المتوسط والطويل ما دامت هذه التحدّيات قائمة؟ وهل يستطيع النظام العالمي معالجة اختلالاته البنيوية واستعادة الثقة؟ 

شارك