الحوكمة قبل التمويل
و من منظور اقتصادي– تنموي، فإن نجاح مرحلة ما بعد العقوبات مرهون بإدارة مرنة وحوكمة رشيدة، تهدف إلى تجنّب الصدمات وضمان الاستقرار، وفي هذا السياق تبرز الحاجة الملحّة إلى خطوات إسعافية أولية ضمن ما يمكن تسميته بـ”مرحلة الإعداد السريع”.
عقل الدولة في لحظة التحول
يؤكد كويفي أن المرحلة الراهنة تتطلب تشكيل غرفة عمليات اقتصادية فنية متخصصة، تضم نخبة من السياسيين، والخبراء الاقتصاديين، والاجتماعيين، والمصرفيين، والمهندسين، والمخططين، إضافة إلى القانونيين الدوليين، وتُكلَّف هذه الغرفة بوضع خطة تفصيلية محددة زمنياً لمرحلة ما بعد العقوبات، على أن تتمتع باستقلالية تامة وشفافية كاملة، بعيداً عن أي تدخلات سياسية أو فئوية.

تشخيص عاجل للقطاع المصرفي
يُعدّ القطاع المصرفي الحلقة الأكثر حساسية في عملية التعافي، ما يستدعي إجراء فحص تشخيصي شامل وعاجل بالتعاون مع جهات دولية محايدة، مثل صندوق النقد الدولي أو بيوت الخبرة المصرفية العالمية، ويهدف هذا الفحص كما يبين المهندس كويفي إلى تقييم حجم الموجودات السورية المجمّدة في الخارج، و تحديد حجم الاحتياطي الحقيقي داخل البلاد، وحصر الأموال المنهوبة من النظام البائد وشبكاته، بما فيها عائدات النفط والفوسفات التي أُخرجت من الموازنة العامة، و قياس مستوى التدهور الفعلي لرأس المال في المصارف المحلية، وتحديد الديون الداخلية والخارجية الحقيقية على الدولة والقطاع الخاص.
إعادة هيكلة المصارف بين الإنقاذ والتصفية
وبناءً على نتائج التشخيص، يصبح من الضروري الشروع في إعادة هيكلة عاجلة للقطاع المصرفي، مع التفريق بين البنوك القابلة للإنقاذ وتلك غير القابلة للاستمرار، ويمكن تنفيذ ذلك عبر دمج المصارف الضعيفة مع القوية، تحت إشراف صارم من البنك المركزي، بما يضمن حماية الودائع واستعادة الوظيفة الائتمانية للمصارف.
إعادة الرسملة والشركاء
ويرى الباحث كويفي أن المرحلة قد تتطلب عملية إعادة رسملة طارئة للمصارف، سواء عبر إصدار سندات سيادية مخصصة لهذا الغرض، أو من خلال جذب شركاء استراتيجيين يساهمون في تنظيف الميزانيات وتمكين البنوك من الإقراض مجدداً، وينبغي أن تراعي هذه السياسات الظروف الاستثنائية التي عاشتها سوريا، من خلال إعفاءات مالية ومصرفية وخدمية، خصوصاً للمناطق التي تعرضت للتدمير والنهب الممنهج.
الانفتاح على المؤسسات الدولية
لا يمكن تحقيق الاستقرار دون إطلاق مفاوضات فنية فورية مع المؤسسات الدولية، وعلى رأسها صندوق النقد الدولي، بهدف الحصول على برنامج دعم فني وتمويلي طارئ ، كما تبرز أهمية التعاون مع بنوك التنمية والصندوق الأخضر لتأمين حزم تمويلية مخصصة لإعادة الإعمار والبنى التحتية.
بوابة العودة للنظام المالي العالمي
يؤكد كويفي أن الانفتاح الاقتصادي يتطلب إصلاحاً تشريعياً سريعاً، يشمل تحديث قوانين الاستثمار والبنوك والتمويل، مع الالتزام الصارم بمعايير مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب (AML/CFT)، باعتبارها شرطاً لا غنى عنه لإعادة الارتباط المستدام بالنظام المالي العالمي.
استعادة الثقة بالعملة سياسة نقدية انتقالية
يمثل انعدام الثقة بالعملة المحلية أحد أكبر التحديات. وقد يكون إصدار عملة جديدة خطوة مهمة لاستعادة الثقة، بالتوازي مع اعتماد سياسة نقدية انتقالية طموحة، مثل الربط المؤقت بسلة عملات للحد من التضخم، إلى حين تدفق الاستثمارات الخارجية، ويوضح كويفي أن الأموال المنهوبة من قبل الديكتاتور الهارب وأعوانه، إضافة إلى أموال السوريين المجمدة في المصارف اللبنانية، تشكل أوراق ضغط سياسية واقتصادية يمكن استخدامها لاستعادة جزء من الحقوق الوطنية ودعم الاحتياطي النقدي.
تحديث الأنظمة وعودة الكفاءات
كما يتطلب التعافي أيضاً برنامجاً طارئاً لتحديث الأنظمة المصرفية والرقابية، بمساعدة تقنية دولية، إلى جانب إطلاق برنامج جاد للعودة الآمنة للكفاءات الاقتصادية والمصرفية السورية في الخارج، مع حوافز مالية وقانونية واضحة.
أولوية الإنتاج
بعد تحقيق الاستقرار، تبدأ مرحلة الانتعاش الاقتصادي، عبر التركيز على القطاعات سريعة العائد، مثل: الزراعة والصناعات الغذائية والدوائية لتعزيز الأمن الغذائي، والسياحة كمصدر للعملة الصعبة وفرص العمل ، والاستثمار الأجنبي المباشر الانتقائي في مشاريع البنى التحتية والطاقة والاتصالات والنقل، ضمن شراكات تحقق قيمة مضافة اقتصادية واجتماعية.
عقد اقتصادي– اجتماعي جديد
كما يرى كويفي أن رفع العقوبات ليس نهاية الطريق، بل بدايته. والفرصة الحقيقية تكمن في استثمار المرحلة الانتقالية لبناء عقد اقتصادي–اجتماعي جديد يقوم على الشفافية، والحوكمة، والإنتاجية، ويعيد لسوريا دورها كمركز اقتصادي محوري بين الشرق والغرب. فالقطاع المصرفي هو عصب هذه العملية، وإصلاحه يشكّل الجسر الإلزامي لأي انتعاش حقيقي، وأي محاولة للتجميل أو الالتفاف ستقود حتماً إلى أزمة أعمق.
