تحديات اقتصادية كبيرة تواجه الاقتصاد السوري، في ظلّ الأزمات المتراكمة في البلاد، حيث شهدت سورية، منذ العام 2011، مجموعة من الأزمات، بدءاً من الحرب إلى تداعيات جائحة كورونا وصولاً إلى الأزمة الروسية الأوكرانية وانعكاساتها الممتدة على مختلف القطاعات، فضلاً عن الأوضاع الداخلية الصعبة وما خلفه زلزال شباط من آثار مُدمرة، وقد أسهم كل ذلك في تمدّد الاقتصاد الموازي المسمّى باقتصاد الظل على حساب اقتصاد البلاد الطبيعي.
ولا شكّ أن الصورة التي خلفتها الحرب والعقوبات تمنع انتعاش الاستثمار في البلاد، والعقبة الأكبر هي تدمير البنية التحتية من قبل الإرهابيين، ولا ننسى أيضاً عامل الزمن، لأن العلاقات الاقتصادية بين الدول تتهدم خلال أسابيع أو أشهر ولكنها تحتاج لسنوات لاستعادتها، وعلى الرغم من كل ما سبق فإن هناك في الداخل من يبدّي مصلحته الشخصية على مصلحة البلاد بعدد من الأساليب والسلوكيات المخالفة، أبرزها في الوقت الحالي المضاربة على الليرة السورية بالاقتراض المصرفي.
أساليب قديمة جديدة
وفي هذا الصدد بيّن الباحث الاقتصادي الدكتور رازي مُحي الدين لـ “البعث” أن تقييد عمليات تمويل رأس المال العامل وشبه توقف عمليات الاستثمار الحقيقي نتيجة تراجع القوة الشرائية الحاد، مع بقاء معدل الفائدة الحقيقي سالب على القروض ظهر في سورية (في اقتصاد الظل) استثمار جديد هو المضاربة على الليرة السورية بالاقتراض المصرفي، حيث يعتبر حالياً في السوق السورية أهم استثمار رابح هو الاقتراض بالليرة السورية وتحويله إلى دولار، مؤكداً أن هذه الأداة للأسف لم يتمّ ربطها بالاقتصاد المنظم (حيث يكون التمويل متوافقاً مع القوائم المالية الحقيقية المقدمة لوزارة المالية، وبالتالي هذا الربح يتمّ دفع الضرائب عليه) بل يتمّ استخدامها بشكل عشوائي لدعم اقتصاد الظل، حيث تبلغ الفوائد على القروض حالياً قرابة 15% والتضخم قرابة 300% وبالتالي كل قرض يحقق ربحاً أكثر من 200% سنوياً.
وأضاف الباحث أن هذا الأمر خطير جداً عندما تصبح مصلحة اقتصاد الظل هي انهيار الليرة السورية لكي يحقق أرباح مضاربة، مع التنويه بأن مصلحة الاقتصاد النظامي دائماً وأبداً استقرار الليرة السورية لسببين، الأول أن ادخاراته بالليرة، والثاني أن أي انهيار سيدفع ثمنه بسبب التضخم وتراجع القوة الشرائية، أما اقتصاد الظل القائم على التهريب والاقتراض والفساد والمحسوبية والرشاوى فقد استفاد بشكل كبير في السنوات الماضية، مبيناً أن الليرة نتيجة لضعف السياسة النقدية خسرت أغلب وظائفها، وأن الوظيفة التي ما زالت تقوم بها جزئياً هي بسبب العقوبات المتشدّدة، والذي من الممكن أن يكون قد أدى في كثير من الأحيان لدور عكسي بعدم الثقة بالليرة السورية وساهم بهروب كثير من الأموال إلى خارج القطر.
بدوره الخبير الاقتصادي الدكتور عابد فضلية أشار في حديثه لـ”البعث” إلى أن الاتجار والمضاربة بالقطع الأجنبي ليست سلوكيات ومسائل جديدة في سورية؛ بل موجودة ونشطة منذ أواسط القرن الماضي، إلا أن هذه الأنشطة ازدادت واتسعت خلال فترة الحرب وأصبحت شبه مهنة احترافية للبعض، وخاصة ممن لهم علاقات تجارية ومالية مع شريحة واسعة من النشطاء الاقتصاديين، مبيناً أن هذا النشاط ينضوي تحت ما يُسمّى (أنشطة اقتصاد الظل)، وهي نوعان، الأول أنشطة اقتصادية شرعية وغير ممنوعة ولكنها غير مرخصة، مثل بيع الألبسة أو الخضار على بسطة في الطريق، والنوع الثاني هو أنشطة اقتصاد الظل الممنوعة بطبيعتها والتي لا ترخص أو لا يمكن ترخيصها إلا بتوفر شروط معيّنة لطالب الترخيص مثل التعامل بالقطع؛ فهو ممنوع بالقانون دون ترخيص، ولا يتمّ ترخيصه إلا بتوفر شروط معينة حدّدها مصرف سورية المركزي، وبالتالي فإن الصرافين في السوق السوداء يمارسون أنشطة ممنوعة عليهم بنص القانون، ومثل هذه الأنشطة الممنوعة تتمّ في السر فيما يُسمّى بالسوق السوداء فتكثر فيها سلوكيات الاستغلال والاحتكار والمضاربة، أي تكون فيها الأرباح من خلالة اقتناص الفرص.
ممارسات غير مشروعة
وتابع فضلية أن موضوع الاقتراض من المصارف بهدف شراء القطع الأجنبي للمضاربة به في السوق السوداء، فهذه احتمالات محدودة نسبياً باعتبار أن المصارف تلاحق أو تراقب (نظرياً) المقترضين للتأكد من استخدامهم لهذه القروض لأجل المشروعات والأنشطة التي منحت لأجلها عدا الحالات والممارسات التي انتشرت وسادت على نطاق واسع أوائل فترة الحرب، وخاصة من قبل بعض كبار المقترضين، إلا أن مصرف سورية المركزي والجهات الرسمية الحكومية وضعت ضوابط صارمة تضمنت إيقاف الإقراض لفترة، ثم عادت وسمحت به بالشروط الجديدة التي هدفت إلى التضييق على المقترضين غير الملتزمين والتقليل من مثل هذا الاحتمال أو (الاحتيال)، مضيفاً أن البعض يسمّي ذلك استثماراً رابحاً ولكنه قانوني، ومن وجهة نظر المصارف والاقتصاد الوطني، ليس إلا عبارة عن ممارسات ممنوعة وغير مشروعة، والأرباح التي يتمّ تحقيقها تكون من خلال استغلال أموال الآخرين، وهي تلك الأموال التي من المفترض أن يتمّ إنفاقها على الاستثمار والإنتاج والتنمية، وبالتالي فهذا إضرار بالقطاع المالي والاقتصاد الوطني.
حلول
وحول الحلول أكد محي الدين على ضرورة ضبط اقتصاد الظل الذي يضارب على الليرة السورية ويأخذ قروضاً بكميات كبيرة أكثر بكثير من ميزانيته الحكومية، ويستفيد من تراجع الليرة، وبقية مكونات المجتمع تدفع هذا الثمن (رواتب وأجور واقتصاد نظامي)، وهنا إما بربط تمويلاته بقوائمه الحكومية وأي زيادة بالتمويل عن احتياجه وفق بياناته الرسمية المقدمة يتمّ التعامل معها بإحدى ثلاث طرق: إما قرض ليرة دولار حيث يتمّ ربط القرض بسعر الدولار، وبالتالي يأخذ القرض الذي يحتاجه للتمويل وليس لمضاربة، أو رفع ربحه الضريبي بما يتوافق مع أرقام تمويلاته الرسمية، وبالتالي تشجع الشركات على تقديم بياناتها الحقيقية لأنها ستستفيد من القروض بالليرة، أو بمضاعفة سعر الفائدة. بينما يرى فضلية أنه لمواجهة مثل هذه الحالات غير القانونية والمضرّة بالاقتصاد والمجتمع، فإن الحلول من وجهة نظره تتمحور في تشدّد الجهات الرسمية ذات الصلة بالرقابة الفاعلة والجدية على العمل المصرفي، ولاسيما ضوابط وشروط الإقراض والتدقيق في الأقنية التي تذهب فيها أو إليها القروض المصرفية، إضافة إلى تشديد الرقابة على تجار القطع في السوق السوداء، وكل ما يقصده ليس جديداً وتقوم به الجهات الحكومية والرسمية منذ سنين طويلة، ولكن المقصود المزيد من التشديد والجدية في الرقابة.
البعث