مع التحولات الاقتصادية العالمية، تبرز سورية كواحدة من بلدان كثيرة تعاني من تحديات كبيرة في مجال الاقتصاد والتنمية، حيث تواجه مشكلات متعدّدة تتعلق بالتضخم المستمر وتراجع الإنتاج، ما يؤثر سلباً على حياة المواطنين ويعرقل جهود التنمية الاقتصادية.
وفي هذا السياق، يوضح الخبير الاقتصادي الدكتور جورج خزام لـ “البعث” أن استمرار ارتفاع الأسعار رغم استقرار سعر الصرف يشير إلى انخفاض كبير في البضائع المعروضة مقارنة بالطلب، ويرجع ذلك إلى تراجع في مستوى الإنتاج، ما يؤدي إلى ارتفاع الأسعار، وهذا ما يعكس حالة تراجع مستمر في الاقتصاد السوري والإنتاج.
من جانبه، بيّن عضو مجلس إدارة جمعية العلوم الاقتصادية، محمد بكر، في حديث لـ “البعث”، أنه ورغم استقرار سعر الصرف لفترة زمنية، إلا أن الأسعار لم تنخفض ولم تتأثر بأي شكل من الأشكال، ويرجع ذلك إلى تمسك التجار بعدم خفض الأسعار، حيث يدّعون بأنهم اشتروا بأسعار أعلى، والسبب الأبرز يعود إلى ضعف القوة الشرائية ونقص السيولة نتيجة للسياسات النقدية الخاطئة التي أدّت إلى الكساد التضخمي المفرط، بالإضافة إلى ذلك تسهم قرارات الحكومة في رفع الأسعار، مثل تعديل أسعار الطاقة ورفض وزارة الكهرباء إعادة النظر في أسعار الكهرباء الصناعية، والارتفاع في سعر أونصة الذهب عالمياً إلى مايزيد عن 2400 دولار.
ضعف في الأداء
وأشار خزام إلى أن التراجع في النمو الاقتصادي أعلى بكثير من الواقع، والمقياس الأكثر أهمية الذي من خلاله يتمّ قياس مستوى أداء الاقتصاد هو سعر صرف الدولار مقابل الليرة السورية، الذي يشهد ارتفاعاً مستمراً، وانخفاضاً مستمراً في قيمة السلة الغذائية التي يقتنيها الأفراد برواتبهم الضعيفة، مؤكداً أن ذلك ناتج عن ضعف في السياسات الاقتصادية التي لا تتناسب مع واقع الاقتصاد الوطني الذي يبحث عن التحرر من القيود لتشجيع رأس المال على الاستثمار في التجارة والصناعة والزراعة، وبالتالي، نجد أن السياسات الحالية تفرض قيوداً على حركة السلع والأموال وتتسبّب بتجميد الأسواق.
تحديات وقيود
وأوضح خزام أن النمو والازدهار الاقتصادي وزيادة الإنتاج يحتاج لمقومات غير متوفرة في الاقتصاد السوري، لذلك لن نشهد ازدياداً في عدد المستثمرين الأجانب والسوريين لأسباب كثيرة، أهمها قرار تجريم التعامل بالدولار فكيف سيدخل مستثمر أجنبي أو سوري مغترب ومحرّم عليه التعامل بالدولار، وحتى يدخل المستثمر الأجنبي إلى بلادنا يجب أن تكون أرباحه من الاستثمار في سورية أكثر أو تعادل الأرباح التي يحققها في بلده، وهذا غير موجود بسبب التدخل في سياسات التسعير وفرض الأسعار من قبل التموين في بعض الأحيان بسعر يقترب من تكاليف الإنتاج بحجه حماية المستهلك، وكأنّ المطلوب من المنتجين والمستثمرين تعويض المستهلك عن تراجع القوة الشرائية للدخل المنخفض.
وأضاف أيضاً أن منصة تمويل المستوردات قد أنهكت الاقتصاد السوري، وكانت من الأسباب المباشرة المسؤولة عن إنهيار الأسواق وتدهور الليرة السورية وانخفاض مستويات الإنتاج وارتفاع تكاليف المستوردات ومدخلات الإنتاج، مما أدى إلى تقليص قدرة المنتج الوطني على المنافسة بالأسواق الداخلية والخارجية، وبالتالي خروج المنتج الوطني من الأسواق وزيادة حجم البطالة والكساد مع تصفية المصانع وهروب التجار والصناعيين إلى الخارج.
ومن جهة أخرى، قال بكر: إن عدم دخول مستثمرين إلى البلاد يعود إلى عدة عوامل تجعل الوضع غير ملائم للاستثمار، فلا يمكن العثور على مبرّر لزيادة عدد المستثمرين في ظل غياب بيئة استثمارية ملائمة، وعدم وجود أنظمة قطع، وارتفاع أسعار حوامل الطاقة، والتحديات المتعلقة بعمليات الشحن من وإلى سورية، بالإضافة إلى نقص العمالة الماهرة والعديد من العوامل الأخرى التي تجعل الاستثمار في البلاد أمراً صعباً ومعقداً خلال الظروف الحالية، مشيراً إلى أنه تمّت دراسة وتحليل منصة تمويل المستوردات بدقة وتعرّضت لكمّ كبير من الانتقادات ومن جميع المستويات، وتبيّن أنها السبب الرئيسي وراء تراجع الإنتاج، وارتفاع الأسعار، وإغلاق المنشآت الصناعية، وهروب كبار التجار والصناعيين من السوق إلى دول الجوار، حيث بنى كل واحد منهم إمبراطورية صناعية، ورغم ذلك، متسائلاً هل نجحت جميع القرارات في تشكيل لجان لإعادة الصناعيين وأصحاب رؤوس الأموال إلى سورية؟ أو بالأحرى، هل تمت المباحثات والتنسيق لتنفيذ المهمة المكلفين بها؟.
تداعيات ونتائج
وأشار خزام إلى أن قرار المصرف المركزي بتقييد حرية سحب ونقل الأموال من المصارف أدى لزيادة الطلب على الدولار، حيث يفضّل الناس نقله وتخزينه بعيداً عن المصارف وقيودها، وهذا يعني زيادة الطلب على الدولار وارتفاع سعره، بالإضافة إلى زيادة كتلة السيولة النقدية المتراكمة بالليرة السورية بالأسواق وعدم القدرة على سحب فائض السيولة النقدية المتراكمة بالليرة من الأسواق وإيداعها بالمصارف من أجل تحقيق توازن بين كمية الأموال المتداولة بالليرة السورية مع كمية البضائع والدولار المعروضة للبيع بالسوق مما يؤدي لارتفاع سعر البضائع والدولار معاً، منوهاً بأن رأس المال مثل الروح البشرية جبان ويحب الحرية بالعمل، فعندما يشعر بالخوف فإنه يهرب بسرعة وله القدرة على تغيير شكله لعملات مختلفة أو ذهب أو بضائع أو الهروب إلى الأمان بالعمل، كما حصل عندما خرجت الأموال السورية بالدولار إلى مصر وتركيا والخليج حيث الحرية المطلقة بالعمل دون مضايقات وقيود.
أما من وجهة نظر عضو مجلس إدارة جمعية العلوم الاقتصادية فإن جميع قرارات البنك المركزي هي تجارب على السوق، على الرغم من وجود العديد من الاقتصاديين المخضرمين في الجامعات وجمعية العلوم الاقتصادية وجمعية المحاسبين القانونيين، إلا أنه لم يصدر أي قرار مدروس، فالقرارات تبقى فردية دون مشاركة المعنيين لتقديم آرائهم وخبراتهم، وبالفعل، ساهمت سياسة البنك المركزي في جفاف مصادر السيولة وتقييد حركة الأموال بزيادة الطلب على الدولار، سواء للاستخدام في الأعمال التجارية أو للادخار كملاذ آمن لحفظ الثروة.
وفي الختام يظهر بوضوح أن الاقتصاد السوري يواجه تحديات جسيمة، وبالتالي لابدّ من اتخاذ إجراءات فعالة لمواجهتها، فالتضخم المتزايد وتراجع الإنتاج يشكلان عائقاً كبيراً أمام تحقيق الاستقرار الاقتصادي، ومع ذلك، فإن تحليل ومعالجة هذه التحديات يمكن أن يمهّد الطريق لتطبيق سياسات اقتصادية مدروسة وفعالة تعزّز من فرص النمو والاستقرار في المستقبل. لذا، يبقى تحقيق التوازن بين السياسات الاقتصادية والتحديات الحالية ضرورة ملحة للحفاظ على الاستقرار الاقتصادي وتعزيز النمو المستدام في البلاد.