يعتقد أهل الخبرة في الاقتصاد أنه كان لدينا في سنوات قليلة مضت أكثر من فرصة لإيقاف تدهور حالنا الاقتصادي والمعيشي، فيما لو عرفنا كيف نوظّف مواردنا وإمكاناتنا الاقتصادية، وتوظيف خبراتنا البشرية بالمكان المناسب.
للأسف تمّ استنزاف الكثير من ثرواتنا الزراعية وعرقلة منشآتنا الصناعية بطرق تشغيل عشوائية، عدا عن الهدر والتخبّط في العديد من القطاعات الأخرى، مما أدى إلى نتائج كارثية أدّت لتدني النمو الاقتصادي وتأخر التعافي، عدا عن ارتفاع معدلات البطالة، وكلّ ذلك بسبب غياب التخطيط الاقتصادي، ووضع البرامج التنموية المناسبة في وقت الحروب والأزمات، وأهمها بلا شك إهمال المشاريع الصغيرة، التي تفتح أبواب فرص العمل لمئات، بل لآلاف الشباب، وتدعم المنتج المحلي وتوفيره بالأسعار المناسبة.
يقول عالم الإدارة بيتر دراكر: “عمل من دون إدارة ناجحة هو بمثابة جسد بلا عقل، أو سفينة بلا ربان”، للأسف هذا هو حالنا، حيث كنا نفتقر وما زلنا للأسلوب الإداري الرشيق والمرن، عدا عن عجزنا عن إبداع الحلول خارج الصندوق!.
الخبير الاقتصادي شادي أحمد أسف لعدم وجود رؤية استراتيجية لدى الحكومة من أجل تجاوز وضعنا الاقتصادي الصعب، مشيراً إلى أن إجراءاتها كانت يومية ضمن الإمكانات المتوفرة لديها، رغم أنه كان هناك فرصة وقدرة على أن تكون هناك خطة للتعافي الاقتصادي بأدوات محلية موجودة أو على الأقل ما زالت موجودة، ولكن لم تُوضع هذه الخطة، أو تستثمر بشكل كافٍ.
ويرى أحمد أنه كان يجب الاتجاه بشكل كبير وأساسي منذ فترة طويلة إلى المشروعات المتوسطة والصغيرة، لما لها من أهمية في تنمية الدخل وإطلاق دوران عجلة الاقتصاد وخلق ترابط بين المكونات الاقتصادية، وبالتالي لا يتأثر كثيراً بالعقوبات، إضافة إلى العمل على تعميق وتجديد العلاقات الاقتصادية المباشرة مع الدول الصديقة التي لا تستجيب للعقوبات الغربية، وأضاف الباحث الاقتصادي: كان يجب التركيز على الضبط الشديد للإنفاق العام، ولاسيما في المؤسّسات التي تعدّ ذات طابع خدمي، وكم كنّا نأمل أن يكون لدينا تطوّر في مجال زيادة الاستثمارات في ضوء ما هو متوفر، إذ لا يمكن لأي اقتصاد مهما كان قوياً أن يستمر بالدعم الاستهلاكي إلى ما لا نهاية طالما لا يوجد دعم إنتاجي، إذ إن أسعار حوامل الطاقة وأسعار المواد الأساسية الداخلة في الزراعة والصناعة بارتفاع دائم، إضافة إلى انخفاض سعر صرف الليرة السورية، وكلّ هذا أدّى إلى زيادة تكلفة بالإنتاج، بالمقابل فإن الدعم دعم الاستهلاك، وهذا الأمر يؤدّي إلى فتح فجوات كبيرة للفساد، في وقت كنا ننتظر فيه السعي لتطوير نظام مالي فعّال وشفاف قادر على مكافحة الهدر والفساد.
خارطة جديدة
وفي السياق نفسه رأى الباحث الاقتصادي محمد كوسا أن سورية كانت تتمتّع باقتصاد جيد ومعدلات نمو مناسبة قبل الحرب، مشيراً إلى أن الأرقام التي توردها منظمات دولية أو مراكز أبحاث علمية عن مقدار التراجع الذي أصاب الاقتصاد نتيجة الحرب الظالمة على سورية التي جاءت سهامها في الجسد الاقتصادي والاجتماعي والجغرافي السوري لم تفاجئنا، حيث كانت أكثر الحروب تخطيطاً وأشدّها تنفيذاً وحزماً في الوصول إلى أهدافها، حيث دمّرت البنى التحتية وهدمت المنشآت والمصانع وخرّبت المرافق العامة وأخرجت خزانات الثروة من الحساب، وأهمها الأراضي الزراعية في الجزيرة وحوران وإدلب، موضحاً أن سورية كانت تنتج سنوياً ما يزيد على خمسة ملايين طن قمح ومئات الأطنان من القطن، ومثلها من الخضار والفواكه والزيوت والشوندر السكري وغيرها، لتحقق بذلك اكتفاء ذاتياً وفائضاً معدّاً للتصدير وكانت تدعم بقوة تطوّر معدلات النمو الاقتصادي وتزيد من مساهمة الزراعة في الناتج المحلي الإجمالي عاماً بعد عام، حيث وصلت مساهمتها حتى عام 2010 إلى ما يقارب 32%، لكنها اليوم خرجت من الحساب وأتلفت معها الكثير من الإمكانات التي كان من الممكن تراكمها لبناء اقتصاد قويّ وكبير، كما خرجت آبار النفط من معادلة الاقتصاد بعد سيطرة الاحتلال الأمريكي على مناطق النفط والغاز، عدا عن تأثير الحرب على إضعاف الأمن الغذائي، ما اضطر الحكومة إلى اتخاذ إجراءات وقرارات قاسية من إعادة هيكلة الدعم بشكل قسري تأثرت به شرائح اجتماعية واقتصادية واسعة، منها الفقراء والصناعيون والمزارعون وحتى القطاع الصحي والتعليمي وحركة التجارة المحلية مع دول العالم.
ضعف الأداء
وقال كوسا: خلال الحرب كانت هناك تراكمات كثيرة تجلّت بالعثرات والأخطاء في الإجراءات والقرارات والتخطيط وتحديد الأولويات وفي التنفيذ الحكومي للاستجابة لمجريات الواقع ومجابهة الحرب الاقتصادية المفروضة، ما ساهم في زيادة حدّة آثار هذه الحرب الاقتصادية، ربما بعضها كان مبرراً بأسباب خارجة عن الإرادة، لكن بعضها كان غير مبرر إما بسبب ضعف الأداء وإما بسبب سوء التوجّه أو لسبب الانحراف في السياسات والأهداف.
معادلة التوازن
والحلّ برأي الباحث كوسا يكون في معادلة التوازن لجهة تنظيم الإنتاج أولاً، وتخطيط النتائج ثانياً، وكخطوات تنفيذية في البداية يجب ربط الزراعة بالصناعة، أو بمعنى أشمل إعادة هيكلة العلاقة بين الريف والمدينة، لافتاً إلى طرق ومخارج أخرى، منها العمل على مشروع القرى الزراعية المتكاملة، والتي يمكن أن تكون بداية لمكافحة البطالة وخلق علاقات إنتاجية تؤسّس لعلاقات مجتمعية جديدة ركيزتها مبدأ التكافل الاجتماعي والتكامل في مواجهة الحياة، وفي توسيع الإنتاج وتحقيق النمو والتنمية الاقتصادية والاجتماعية.
وأشار الباحث كوسا إلى “خروقات إيجابية” حصلت في الآونة الأخيرة، وهي تساهم في التوازن بين الاقتصادي والاجتماعي، منها الدخول في مشروع الطاقات البديلة وما يحققه من توازن بين القطاعين الزراعي والصناعي، بالإضافة إلى الاهتمام الملحوظ بدعم المشاريع الصغيرة بعد أن ثبت أنها الأفضل في دعم الاقتصاد وتأمين فرص العمل.
البعث