الحرّية – هبا علي أحمد:
مع انطلاقة سوريا الجديدة قبل عام كان ولايزال ملف إعادة الإعمار من أكثر الملفات حضوراً وحديثاً وتداولاً وإلحاحاً، وأخذ جانباً كبيراً من الاهتمام المحلي والإقليمي والدولي، ولاسيما بعد صدور تقديرات البنك الدولي حول تكلفة إعادة الإعمار في سوريا.. وبعد مرور عام، يستمر السؤال: أين وصل الملف وما هي الأولويات والاحتياجات؟
التكلفة والاحتياجات
بالأرقام والإحصائيات يتحدث الدكتور باسل سعيد علي، عضو الهيئة التدريسية في قسم التمويل والمصارف جامعة دمشق في حديث لـ«الحرّية» عن تكلفة إعادة الإعمار والاحتياجات وعن حجم الأضرار التي أصابت مختلف القطاعات، لافتاً إلى أن تقديرات البنك الدولي تشير إلى أن تكلفة إعادة الإعمار في سوريا قد تصل إلى 216 مليار دولار، تتوزع على 75 مليار دولار للبناء السكني، و59 مليار دولار للمباني غير السكنية، و82 مليار دولار للبنية التحتية، والتي تشمل الكهرباء، المياه، الطرق، والجسور.

إذ تضررت البنية التحتية بنسبة 48% من إجمالي الخسائر، بقيمة 52 مليار دولار، تليها المباني السكنية بـ33 مليار دولار، وتعد محافظة حلب وريف دمشق الأكثر تضرراً وتحتاجان إلى الحصة الأكبر من الاستثمارات لإعادة الإعمار، كما تُقدر أضرار قطاع النقل في بعض المدن بـ 15 إلى أكثر من90 مليون دولار في الطرق فقط، مع أضرار في الموانئ والمطارات تصل مجتمعة إلى مئات الملايين.
وأشار الدكتور علي إلى أن عدد النازحين الداخليين الذين عادوا إلى مناطقهم الأصلية وصل إلى حوالي 885 ألف شخص، بالإضافة إلى 302 ألف لاجئ سوري عادوا من الخارج خلال 2025، مع توقعات بعودة ما يصل إلى 3.5 ملايين لاجئ ونازح، ما يبرز الحاجة إلى استثمارات عاجلة في البنية التحتية والخدمات.
يُضاف إلى ما سبق ذكره، تقديرات أخرى للأضرار الاقتصادية البالغة عبر تسع سنوات من الحرب والتي تصل إلى 530 مليار دولار للخسائر الاقتصادية، مع تدمير يصل إلى 40% من البنية التحتية، ما يعادل خسائر بنحو 65 مليار دولار، ومعدل فقر يصل إلى 86% بين السكان.
اللافت أمام هذه الأرقام أن هناك سيناريوهات للتعافي، التقطها الخبراء بعد الحديث عن نمو الناتج المحلي الإجمالي لسوريا المتوقع في 2025 حوالي 1% بعد انكماش نسبته 1.5% في 2024، مع سيناريوهات تعافٍ تشمل نمو 13% سنوياً بين 2024 و2030 في حال توفر الإصلاحات والدعم الدولي اللازم، مع تركيز كبير على إعادة بناء البنى التحتية كالمصانع والمباني والمرافق الأساسية التي تعرضت لأضرار كبيرة خلال الحرب حيث يشكل القطاع السكني الجزء الأكبر من هذه الخسائر.
إعادة الإعمار مرتبطة بتجاوز العقوبات الدولية وإصلاح النظام الصحي والاجتماعي المتدهور ولاتزال هناك حاجة كبيرة إلى دعم دولي وإقليمي
الأولويات والاحتياجات الميدانية
وللوصول في ملف إعادة الإعمار إلى بر الأمان وإنجازه على قدر المطلوب وأكثر، يستعرض الدكتور علي الأولويات التي يجب التركيز عليها والتي تشمل إعادة تشغيل المستشفيات الكبرى وخاصة في دمشق وحلب، وتوفير الأدوية والمعدات الطبية وتطوير عيادات متنقلة لمناطق النزوح الداخلي في البلاد كتدابير عاجلة لقطاع الصحة.
أما فيما يتعلق بأولويات البنية التحتية فتشمل القطاعات الحيوية التالية:
*الكهرباء والمياه: تعد هذه القطاعات العمود الفقري لأي عملية تنموية، إذ تمكن من تشغيل المستشفيات والمدارس وتدعم عجلة الاقتصاد فهي تشكل أساس الحياة والعمل في البلاد.
*الطرق والجسور: إعادة بناء شبكات النقل ضروري لتمكين حركة البضائع والأشخاص وتنشيط التجارة وإعادة دوران الاقتصاد. ومن الأمثلة على ذلك تأهيل اوستراد دمشق-درعا الدولي الذي يمثل عصباً حيوياً هاماً لرفد الاقتصاد السوري ويعد رئة لبنان الاقتصادية.
*القطاع السكني: إعادة تأهيل وبناء المناطق السكنية المتضررة بشكل مستدام لاستيعاب النازحين والعائدين مع التركيز على مدن مثل دمشق وحلب التي تضررت بشدة، بالإضافة لتأهيل شبكات المياه والآبار الجوفية وشبكات الصرف الصحي للحد من انتشار الأمراض.
*دعم القطاعات الإنتاجية: كالزراعة والصناعة لدعم الأمن الغذائي وتوفير فرص العمل المباشرة، ما يُسهم في الاستقرار الاقتصادي بالإضافة إلى أن التعليم والصحة بحاجة إلى بنية تحتية مستقرة لضمان بناء رأسمال البشري وتعزيز الاستقرار الاجتماعي.
المصادر المتاحة للتمويل
تحتاج عملية إعادة الإعمار استثمارات، والاستثمارات تحتاج إلى استقرار وحوكمة، إذ إن المطلوب من الحكومة الجديدة أن تضع سياسات تؤدي إلى خلق بيئة مستقرة وشفافة من أجل التشجيع على جذب الاستثمارات وتسريع وتيرة إعادة الإعمار، إضافة إلى وضع خطط واقعية لجذب رأسمال السوري المغترب والتركيز على مشاريع البنية التحتية والبناء المجتمعي بدلاً من المقاولات الكبرى فقط، وهذا يتطلب توفير التمويل وخاصة بعد نية المجتمع الدولي والولايات المتحدة الأمريكية رفع العقوبات وقانون قيصر، ومن المصادر المتاحة للتمويل التي تشمل مجموعة متنوعة من الموارد الوطنية والدولية كما يوضحها الدكتور علي:
*المصادر الوطنية: تشمل أرصدة الدولة المجمدة في الخارج مثل الأموال المحتجزة في بنوك سويسرا وبريطانيا والتي يمكن المطالبة بها، إضافة إلى استثمارات السوريين في الخارج والتي تقدر بمئات المليارات وتحويلات المغتربين التي توفر نحو 5 مليارات دولار سنوياً وعوائد المعابر والتجارة العابرة التي تسهم بشكل كبير في التمويل الوطني.
*المصادر الدولية: والتي تتضمن منح ودعم منظمات دولية كالأمم المتحدة والبنك الدولي وصناديق إعادة إعمار مشابهة لتجارب دول أخرى كالعراق، إضافة الى استثمارات الشركات العالمية القادرة على ضخ مبالغ مالية كبيرة في السوق السورية وما تقدمه الدول الصديقة كالسعودية وقطر من منح لدعم القطاع المجتمعي ودعم سلم الرواتب والأجور.
*السندات الوطنية لإعادة الإعمار: يُمكن إصدار سندات اجتماعية أو سندات تنموية تركز عائداتها على تمويل مشاريع إعادة الإعمار كالبنى التحتية السكنية والصحية والتعليمية، حيث تعد هذه السندات أداة أساسية في جذب رؤوس الأموال من الداخل والخارج وتعتبر خياراً لتخفيف العبء المالي المباشر على الحكومة مع إمكانية تحفيز المشاركة المجتمعية والمستثمرين السوريين في الداخل والخارج برعاية تشريعات مرنة ومحفزة.
*تمويل الشراكة بين القطاع العام والخاص(PPP): يتيح هذا النموذج تنويع مصادر التمويل عبر الجمع بين المال العالم والخاص والقروض ما يُساعد على تنفيذ مشاريع إعادة الإعمار دون تحميل الدولة أعباء كبيرة.
ونظراً لتكلفة إعادة الإعمار الضخمة يجب اعتماد مزيج من هذه الموارد مع خطط واضحة وجاذبة للاستثمارات تساعد في مواجهة التحديات المالية والاقتصادية وتحقيق التنمية المستدامة، وفقاً للدكتور علي، إلى جانب ذلك هناك مبادرات ومنصات تسعى لربط المستثمرين والمهندسين لتنفيذ مشاريع إعادة الاعمار مع أهمية الإشراف والتقييم المستمر لضمان جودة التنفيذ، ولاسيما أن إعادة الإعمار مرتبطة بتجاوز العقوبات الدولية وإصلاح النظام الصحي والاجتماعي المتدهور وما تزال هناك حاجة كبيرة إلى دعم دولي وإقليمي لخطط إعادة الإعمار.

جب التركيز على إعادة تشغيل المستشفيات الكبرى وخاصة في دمشق وحلب وتوفير الأدوية والمعدات الطبية وتطوير عيادات متنقلة لمناطق النزوح الداخلي
خطوات عملية في إطار إعادة الإعمار..
تحتاج إعادة الإعمار إلى مجموعة من الخطوات، حسب الدكتور علي، وتشمل:
*بناء الثقة والشفافية: يعتبران حجر الأساس لتعزيز مشاركة المغتربين حيث يشكك كثير منهم في فعالية الاستثمار دون ضمانات لذلك يجب توفير نظام رقابي ومحاسبي شفاف يضمن استثمار الأموال بصورة ٱمنة وفعالة.
*تحفيز الاستثمار: من خلال تقديم حوافز ضريبية وإدارية للقطاع الخاص والمستثمرين المغتربين وتسهيل إجراءات تسجيل الشركات وضمانات قانونية تحفظ حقوقهم ما يجعل بيئة الأعمال أكثر جاذبية.
*إنشاء هيئات وصناديق مخصصة: كصندوق التنمية السوري الذي يهدف إلى دعم مشاريع إنتاجية وخدمية بمساهمة القطاع الخاص والمغتربين ما يخلق فرص عمل ويعيد البنية التحتية.
*تشجيع الشراكات بين القطاعين العام والخاص ونماذج بناء وتشغيل ونقل الملكية (BOT) لإدارة المشاريع الكبيرة كالطرق والموانئ والمطارات، ما يتيح للقطاع الخاص مرافقة الدولة في المرحلة التنفيذية.
*الاستفادة من خبرات المغتربين ودمج خبراتهم في التقنيات الحديثة وإدارة المشاريع لاسيما في قطاعات الزراعة والصحة والبنية التحتية مع ضمان مشاركة المجتمع المحلي لتلبية الاحتياجات الملحة.
*دعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة: عبر تأسيس بيئة مالية داعمة (كالرأسمال المجازف) لتعزيز ريادة الأعمال التي يقودها القطاع الخاص والمغتربون والمنظمات الدولية ما يساهم في بناء قاعدة اقتصادية مستدامة.
*إقامة منتديات ومعارض: لتمكين التواصل المباشر بين المستثمرين والدولة والمجتمع وتسهيل تبادل الخبرات وفرص التمويل.
