لم تكن الصناعات النسيجية في حلب مجرد نشاط اقتصادي عابر، بل شكّلت لعقود طويلة هوية المدينة الصناعية ومحركاً رئيسياً للتصدير والتشغيل في سوريا، فمن معامل الغزل والنسيج إلى ورش الأقمشة والألبسة، كانت حلب اسماً حاضراً بقوة في الأسواق الإقليمية والدولية، غير أن الحرب وما خلّفته من دمار في البنية التحتية، وانقطاع سلاسل التوريد، وتراجع الاستثمارات، دفعت هذا القطاع إلى حافة التراجع وفقدان تنافسيته.
وفي ظل متغيرات اقتصادية محلية وإقليمية متسارعة، يبرز سؤال محوري: هل يمكن للصناعات النسيجية في حلب أن تستعيد موقعها الريادي؟
الإجابة لا تكمن في العودة إلى نماذج الإنتاج القديمة، بل في تبني رؤية اقتصادية جديدة تقوم على الابتكار، والجودة، والشراكة بين القطاعين العام والخاص، وتحويل التحديات الراهنة إلى فرص لإعادة بناء قطاع نسيجي أكثر كفاءة وقدرة على المنافسة في الأسواق العالمية.
استراتيجية وطنية متكاملة
وتقوم هذه الاستراتيجية كما يحددها خبير الأعمال ومستشار غرفة صناعة حلب الدكتور سعد بساطة على تقديم حوافز مالية وجمركية، وتسهيلات ضريبية مدروسة، تشجّع الصناعيين على إعادة تشغيل معاملهم أو توسيع استثماراتهم، كما يشكّل دعم البحث والتطوير عاملاً حاسماً لابتكار منتجات جديدة تتماشى مع متطلبات السوق العالمية، إلى جانب توفير تمويل مخصص لتعويض الخسائر أو تحديث الآلات المتقادمة التي تعيق الإنتاجية.

رأس المال البشري حجر الزاوية في النهوض الصناعي
لا يمكن للصناعة النسيجية أن تستعيد عافيتها دون كوادر بشرية مؤهلة، ويؤكد الدكتور بساطة لـ”الحرية” ضرورة التركيز على تأهيل العمالة المتخصصة من خلال برامج تدريبية منهجية في المعاهد الفنية والمدارس المهنية.
إن الاستثمار في التعليم والتدريب المتخصص في مجالات الغزل والنسيج والتصميم الصناعي يساهم في خلق عمالة ماهرة قادرة على رفع جودة الإنتاج، وتعزيز القدرة التنافسية للمنتج السوري في الأسواق الإقليمية والعالمية.
من السوق المحلية إلى العالمية
تمثل محدودية التسويق وضعف قنوات التصدير أحد أبرز التحديات التي تواجه الصناعات النسيجية السورية، ومن هنا تبرز أهمية تطوير استراتيجيات تسويق حديثة تعتمد على المشاركة في المعارض الدولية والمحلية، وتفعيل المنصات الإلكترونية للوصول إلى أسواق جديدة.
كما أن دعم الشركات في عمليات التصدير، وتسليط الضوء على المزايا التنافسية للمنتجات السورية – مثل الجودة المقبولة والأسعار المناسبة – يمكن أن يسهم في استعادة الثقة بالعلامة النسيجية السورية.
البنية التحتية شرط للاستدامة..
يشير الدكتور بساطة إلى أن أي صناعة لا يمكن أن تنمو دون بنية تحتية داعمة، ويشمل ذلك تأمين الطاقة والمياه بأسعار معقولة، وتحسين شبكات النقل واللوجستيات، وينعكس تطوير هذه العناصر مباشرة على خفض تكاليف الإنتاج، وتسريع دورة التصنيع، وتحسين القدرة على الوفاء بطلبات السوق في الوقت المناسب.
الشراكة بين القطاعين العام والخاص..
يؤكد الدكتور بساطة أن التعاون المؤسسي بين الحكومة والقطاع الخاص يعد من أهم محركات إنعاش الصناعة النسيجية، ويمكن تحقيق ذلك من خلال تشكيل لجان مشتركة تتابع تنفيذ الاستراتيجيات المقترحة، وتعالج العقبات التي تواجه الصناعيين، وتضمن توجيه الدعم الحكومي بشكل فعّال يخدم أهداف التنمية الصناعية.
سلاح المنافسة الحقيقي..
في ظل المنافسة الشديدة، لا سيما من المنتجات التركية، يصبح التركيز على الجودة عاملاً حاسماً، فتبني معايير الجودة العالمية، وتحسين تقنيات الإنتاج، يعززان ثقة المستهلك المحلي والدولي بالمنتج السوري، كما أن الابتكار في التصميم وتنوع المنتجات يتيح للصناعة السورية تمييز نفسها عن المنافسين، بدلاً من الاكتفاء بالمنافسة السعرية فقط.
المنافسة التركية تحدٍ أم فرصة؟
تتمتع تركيا بصناعة نسيج متطورة وأسعار تنافسية، ما يشكّل ضغطاً على السوق السورية، إلا أن الصناعي السوري يستطيع مواجهة هذه المنافسة كما يوضح الدكتور بساطة و عبر:
الابتكار والجودة: تقديم منتجات متجددة تواكب الموضة العالمية.
التسويق الفعّال: استثمار التسويق الرقمي وبناء هوية قوية لمنتج “صنع في سوريا”.
التعاون المحلي: تنسيق الجهود بين الصناعيين لتعزيز الحضور الجماعي في الأسواق.
الدعم الحكومي: توسيع نطاق الحوافز المالية والفنية.
آفاق التعاون السوري– التركي
على الرغم من حدة المنافسة، يفتح الواقع الإقليمي الباب أمام فرص تعاون محتملة مع الصناعيين الأتراك، سواء عبر تبادل الخبرات أو الاستفادة من التقنيات الحديثة المستخدمة في الصناعة النسيجية، بما يساهم في رفع الكفاءة الإنتاجية للصناعة السورية.
طريق العودة إلى الريادة
يلخص الدكتور بساطة حديثه بالقول: إن عودة الصناعات النسيجية في حلب وسوريا إلى موقعها الريادي ليست أمراً مستحيلاً، بل تتطلب رؤية اقتصادية واضحة، واستراتيجيات مدروسة، تقوم على الجودة والابتكار والشراكة الفعّالة، ومع توافر الإرادة الحكومية، وتعاون القطاع الخاص، والاستثمار في الإنسان والبنية التحتية، يمكن للنسيج السوري أن يتجاوز تحديات المنافسة الدولية، ويستعيد حضوره القوي في الأسواق العالمية.
