ليست المشكلة في انتشارها فقط، وإنما في إعاقة العمل والمجاهرة في طلب الرشوة نهاراً جهاراً وكأنها أصبحت من ضمن حقوق الكثير من العاملين في الدولة!
يقول المحامي عارف الشعال: إن هنالك ازدياداً ملموساً في حالات التنمر بين الموظفين حتى على المحامين من أجل القبض منهم، ويرى الشعال أن الانخفاض الحاد في قيمة الليرة وما يتسبب به من ارتفاع هائل في الأسعار يخلق صدمة ومشكلة لأصحاب الدخل الثابت من موظفين وعمال القطاع العام، الأمر الذي يدفعهم للبحث عن مصادر أخرى غير الراتب لتأمين حاجاتهم الأساسية ولاسيما مع تردي أداء بعض المؤسسات في تأمين السلع المدعومة، وأسهل طريق لردم الفجوة بين الراتب والأسعار هو اللجوء للرشوة والفساد.
أضاف المحامي الشعال: إن ظاهرة الرشوة والفساد كانت شائعة قبل انخفاض قيمة الليرة وسببها الرئيسي أصلاً تدني الرواتب، غير أنه مع هذا الواقع الجديد لاحظنا أن السمة العامة للموظفين اتخذت طابعاً يتسم بشيء من العصبية التي تصل للعدوانية أحياناً مع القليل من الشراسة في تعاملهم من المواطنين، وباتوا يشعرون أن مبلغ (الرشوة) الذي يتقاضونه منهم وكأنه حق مكتسب له، ليواجه أعباء الحياة، وبات المواطن مضطراً لدفع هذا المبلغ ليتقي عبوس وجهه وعصبيته وشرَّاً محتملاً منه بعرقلة معاملته.
الشعال: بعض الموظفين يطلبون الرشوة كأنها حق مكتسب
ويرى أن المواطن بات يخرج من منزله صباحاً متأهباً لخوض معارك شتى بدءاً من سائق واسطة النقل الذي يطمع بمزيد من الأجرة، مروراً بموظف يريد أن يقضي لديه حاجته، وليس انتهاءً ببائع يزيد بأسعار سلعه يومياً، ويرجع مساءً لمنزله ليخوض معارك أخرى مع أسرته التي تطالبه بالمزيد من الحاجات والمتطلبات، بحيث يعيش المواطن وكـأنه في ساحة معركة مع الآخرين خارج منزله وداخله.
3 نماذج
عضو مجلس الشعب الإعلامي نضال مهنا يصنف الموظفين إلى 3 أنواع: من يقوم بواجبه على أكمل وجه وعندما تعرض عليه الرشوة يرفضها، لأنها تتعارض مع أخلاقه ومبادئه، ومن يقوم بعمله على أكمل وجه من دون أن يشترط أو يرتبط ذهنياً بأي مقابل لكنه يقبل ما يعرض عليه، وهناك من لا يقوم بواجبه وعمله، بل ويضع كل العراقيل والاشتراطات ليرفع ويساوم ويقبض أعلى رشوة.
يضيف عضو مجلس الشعب: إن الرشوة قد تكون واضحة وصريحة ومباشرة وقد تستتر بهدايا ثمينة أو وعود بأشكال مختلفة يتم من خلالها تقديم المصلحة الشخصية الأنانية على المصالح العليا، من خلال تسهيل الأعمال وتسريعها والحصول على موافقات ومناقصات بشكل غير قانوني، وبما لا يتيح الفرص المتكافئة للجميع ولجعل الحق باطلاً والباطل حقاً أحياناً.
وأضاف مهنا: إنها تؤثر على الاقتصاد من خلال تأثيرها على المنظومة الاجتماعية والعلاقة بين الأفراد والمؤسسات، والتركيبة الهرمية بشكل عام، فهي تؤثر على المزاج الاجتماعي العام وتسبب انحلال أخلاق المجتمع، وبعض القيم النبيلة، وتؤدي لشراء الضمائر وضرب المنظومة الأخلاقية والإدارية والاجتماعية وفقدان الثقة بين كل مكونات المجتمع وتؤدي للإحباط والهدر وخلل بالأولويات وغياب رؤية واضحة للتنمية الاقتصادية الشاملة. ويرى أنها مرض خطير يحتاج لمنظومة متكاملة من الأساليب والإمكانات لمعالجتها، ويحدد الكثير من الطرق الكفيلة بتقليصها.
الأكثر فساداً!
الاستشاري وخبير الإدارة والاقتصادي الدكتور عبد الرحمن تيشوري يقدر دورة الفساد في سورية بنحو 1000 مليار ليرة، وأن التقديرات تشير إلى أن نسبة التهرب الضريبي تصل إلى 1000 مليار ليرة أيضاً، وأنه من هذين البندين فقط يمكن زيادة الأجور 200 بالمئة، ما يقلص من انتشار الفساد والرشوة، وقبول الموظفين للهدايا والرشا.
وعن أكثر الجهات فساداً قال تيشوري: إن الفساد منتشر في معظم الجهات العامة سواء من دوائر المالية أم البلديات وغيرها، ولجان الشراء والعقود، (عقود وزارة التربية نموذجاً) التي ضبط فيها 100 مليار ليرة. لكنه يكثر في الجهات ذات الطابع الخدمي التي تتعامل مع الناس بكثرة.
أسباب قديمة وجديدة
وعن أسباب انتشار ظاهرة الرشوة يذكر تيشوري عدة أسباب منها قديمة، وأخرى جديدة انتشرت خلال الحرب، فمن الأسباب القديمة: ضعف المساءلة والرقابة عموماً، في بلدنا، وضعف الرواتب والأجور ومنظومة التحفيز، كل هذا يدفع بالعاملين إلى تبرير الرشوة وقبولها نتيجة عجز الرواتب عن تأمين الحاجات المعيشية للعاملين.
أما الأسباب الجديدة برأيه فهي ضعف الرقابة والمساءلة خلال فترة الحرب، واعتقاد البعض أنه بإمكانهم الإفلات من العقاب، فكثرت ظاهرة الرشوة في الآونة الأخيرة.
علاجها الإسعافي زيادة الرواتب والأجور ولو كان بالاقتراض
وعن قراءة هذه الظاهرة رقمياً قال: إنه متابع لمنظمة الشفافية الدولية، ففي عام 2015 كان يأتي خلف سورية نحو 5 دول في الفساد، في 2018 أصبح خلفها الصومال فقط، وفي العام الماضي 2020 أصبحنا من أكثر دول العالم وفق تقرير منظمة الشفافية الدولية، وكذلك من أفسد الدول العربية، لأن التقرير قسم الدول العربية بجانب ودول العالم بجانب آخر.
آثار هدامة
وعن آثار هذه الظاهرة اقتصادياً أضاف د. تيشوري: إنه تترتب على ظاهرة الرشوة والفساد آثار اقتصادية واجتماعية هدامة، لأن الرشوة تعرقل الإنتاج، وتؤدي لإنتاج سلع وخدمات رديئة، وإلى شعور بعض الكفاءات بالغبن، وتؤدي لعدم التنافس الإيجابي داخل المؤسسات الحكومية. واقترح وضع تعريف واضح للمال العام وتشديد العقوبات وتفعيل عمل مؤسسات الرقابة بشكل أفضل مما هو حالياً.
وقسم العلاج إلى نوعين: إسعافي وعلى المدى الطويل: فالإسعافي يشمل أولاً زيادة الرواتب والأجور بشكل فوري ولو كان بالاقتراض من الأصدقاء، وتفعيل قانون الذمة المالية بمفعول رجعي مثلاً، لأن بعض المسؤولين سرقوا أموال الدولة ولم تتم مساءلتهم.
أيضاً تفعيل دور الإعلام في كشف الفساد والرشاوى، وإعادة النظر بقانون الجريمة الالكترونية حيث يخشى السوريون والنخب تقديم آرائهم في هذا المجال، وكذلك تفعيل تنفيذ مشروع الإصلاح الإداري وانتقاء المديرين على أساس الكفاءة والنزاهة والتخصص.
تطلب بشكل «وقح»
وفي المجال الميداني للعاملين في القطاع العام يقول مدير التخطيط في مؤسسة التأمين والمعاشات الدكتور محمد كوسا إن ظاهرة الرشوة متأصلة وليست ابنة اليوم لكنها الآن ظهرت بشكل فج حد الوقاحة، في الكثير من الحالات، رغم أن انتشارها الكبير في هذه الحرب يبرره البعض في هذه الظروف الاقتصادية الصعبة بسبب الفقر وانخفاض الدخل. وأضاف د.كوسا: إنه يجب التمييز بين الرشوة الصغيرة والكبيرة، والرشوة كهدية أو المطلوبة «بوقاحة». ومن خلال خبرته الميدانية والعمل في القطاع العام يرى أن الرشوة الأخطر غالباً من أصحاب القرار والمناصب الذين يتسلطون على الناس ويستغلون مناصبهم، وهنالك ممارسات من قبل المستويات الأقل وظيفياً وتظهر من خلال المماطلة وتعقيد المعاملات لإرغام الناس على الدفع لتيسير المعاملة. والمحصلة أن المرتشي الصغير يقتدي بالمرتشي الكبير وصاحب القرار الذي يعرف المخارج القانونية ويحاولون ترويج فسادهم بأنه طبيعي ومن لا يفعـل مثلهـم يصفونه بالغبي.
وعن تأثيرها على سياق العمل قال: إن هذا يختلف باختلاف المرفق العام، فإذا كان له تأثير على المجتمع والحياة الاقتصادية أو إستراتيجياً عندها تكون المسألة خطيرة قد تتسبب بالدمار وبانحرافات خطيرة على الاقتصاد الكلي، مثلاً بعض الدوائر المالية والنقل والمصالح العقارية تتم فيها الرشاوى بشكل كبير، والكثير من المرتشين يضيعون على الدولة مبالغ كبيرة جداً مقابل حصولهم على مبالغ صغيرة عن طريق الرشا كحال النظام الضريبي الذي يعطي لصاحب القرار أريحية بتحصيل الضريبة. ويتساءل د. كوسا فيما إذا كان الحل بزيادة الأجور، ويرى أن هذا وحده غير كاف ويجب أن يترافق مع تغيير القوانين أيضاً، فالرشوة هي الظاهرة التي يتجلى فيها الفساد، ولكن هناك قضايا أخرى من وضع أشخاص غير أكفياء بمواقع لا يستحقونها ويحضرون أشخاصاً ضعافاً مثلهم.
انهيار الأخلاق
الخبير الإداري صلاح الدين صقر يرى أن الرشوة آفة قديمة حديثة يكاد لا يخلو أي مجتمع منها، من أهم أسبابها الفساد الأخلاقي. وضعف حالة الانتماء الوطني، وحالة الدولة وما تمرّ به من أزمات سياسيّة واقتصاديّة.
ويرى أن من أسوأ آثار الرشوة انهيار الأخلاق والمثل العليا وانعدام الثقة بين أفراد المجتمع الواحد، فالرشوة تصل إلى القطاعات المهمّة والحيويّة في المجتمعات، مثل القطاع الغذائي والقطاع التعليمي والصحي الذي يشمل الأدوية، إضافة لدخولها في مجال البناء والمناطق السكنية وغيرها. ما يدفع لتفكك المجتمع وتفشي الكراهية بين أبنائه. وتؤدي مضاعفات الرشوة كثقافة حياة إلى نشوء الفساد الصغير ومن ثم الفساد الكبير العابر للبلاد.
ونظراً لأهمية وحساسية الموضوع فقد لجأت المنظمات الدولية لوضع تشريعات دولية ومحلية ضمن اتفاقيات لمكافحة الفساد وطنياً على مستوى الحكومات المحلية، ومن ثم توجهت لتأصيل أنظمة مكافحة الفساد في دساتير الدول مع مراعاة منح أنظمة مكافحة الفساد التفويض والاستقلالية والدعم والمرونة الكافية وإلزامها بتنفيذ إستراتيجيات وطنية لمكافحة الفساد وتشير تقارير صادرة عن تلك المنظمات عام 2020 إلى الفساد يساهم بحوالي 3 بالمئة من مجمل الدخل العالمي كما تشير بعض الدراسات لوجود ارتباط وثيق بين معدلات انخفاض الدخل وزيادة معدلات الفساد وانخفاض معدلات التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
ويقترح لمعالجة هذه الظاهرة دمج الهيئة المركزية للرقابة والتفتيش مع الجهاز المركزي للرقابة المالية وإحداث هيئة مستقلة لمكافحة الفساد، وكذلك تبسيط الإجراءات والتوسع بإحداث النافذة الواحدة. وعموماً العمل على تفعيل ثالوث مكافحة الفساد المتعارف عليه عالمياً وهو الشفافية والمساءلة والنزاهة.
الوطن