ما من قرار اقتصادي يصدر إلا ويتبعه سؤال: من المستفيد؟ ومن المتضرر؟
وإذا كانت بعض القرارات تكشف فورا من المستفيد ومن المتضرر كالقرارا الأخير الذي سمح باستيراد الأقمشة المصنرة.. فإن الكثير من القرارات يصعب كشف المستفيدين منها باستثناء “زملاء الكار”!
وبما أن القرارات الاقتصادية تؤثر سلبا أم إيجابا بالتجار والصناعيين فإن الحرب المعلنة حينا والخفية في أغلب الأحيان بين غرف التجارة والصناعة تبقى مشتعلة فيما بينها وكل طرف يمارس الضغوط على الحكومة لانتزاع قرارات منها تخدم مصالحه الخاصة!
وليس مستغربا أن ينجح حيتان الاستيراد باعتراف أعضاء في غرفة تجارة دمشق باستصدار قرارات تتيح لهم احتكار الأسواق والتحكم بالأسعار ولو الحق هذا الأمر الضرر بالبلاد والعباد!
ونادرا ما يتم التنسيق بين اللجنة الاقتصادية وغرف التجارة والصناعة حول القرارات الجديدة قبل صدورها، والدليل ردات الفعل الغاضبة من المتضررين على هذه القرارات فور صدورها!
نظريا يجب أن تكون جميع القرارات الاقتصادية لمصلحة المنتج المحلي وتحسين الأوضاع المعيشية لملايين الأسر السورية، ولكن فعليا فإن قرارات حماية الصناعة الوطنية لا تزال في حدودها الدنيا لأن الغلبة لاتزال لحفنة من حيتان الاستيراد، كما أن الارتفاع الدائم للأسعار يتناقض جذريا مع شعار الحكومة “الأولوية للمواطن”ّ، فمعظم القرارات الاقتصادية ـ أن لم يكن كلها ـ ينغص الحياة المعيشية لملايين الأسر السورية، وكان آخرها سلسلة من ارتفاعات أسعار طالت السلع الأساسية الضرورية للمعيشة اليومية!
ونسأل مجددا: لمصلحة من تصدر القرارات الاقتصادية التي يُشعل بعضها الحرب ليس بين التجار والصناعيين فقط، وإنما أيضا بين زملاء الكار؟
تحفيز بدائل المستوردات
تكرر وزارة الاقتصاد أن اهتمام الحكومة ينصب حاليا ومستقبلا على “حماية الإنتاج المحلي وتنميته وذلك لتحفيز إنتاج بدائل عن المستوردات، وترشيد المستوردات لتخفيف فاتورتها، وبالتالي تخفيض الطلب على القطع الأجنبي، بما يساهم في توجيه موارد الدولة المتاحة نحو الأولويات التي لا يمكن الاستغناء عنها”.
والسؤال: هل القرارات التي تقرها اللجنة الاقتصادية تحقق أهداف تنمية التصنيع المحلي وتخفيض المستوردات؟
تقول وزارة الاقتصاد أنها قامت، بالتنسيق مع الوزارات والجهات المعنية، بإجراء مراجعة ودراسة مستفيضة لقائمة المواد المسموح باستيرادها، وبناءً على النتائج التي تمّ التوصل إليها، تمّ إيقاف السماح باستيراد بعض المواد الواردة في الدليل التطبيقي الإلكتروني المعتمد لمنح الموافقات لإجازات وموافقات الاستيراد لمدة 6 أشهر فقط.
قد يكون إيقاف الاستيراد لمدة محددة مطلوبا في حال توفر البديل، أو التي لا تشكل حاجة ماسة إلا لقلة من الناس، لكننا لا نفهم مثلا إيقاف استيراد الباصات والميكروباصات للمؤسسات التعليمية والقطاع الحكومي في ظل أزمة نقل غير مسبوقة!
والملفت أن المدارس والجامعات الخاصة تساهم بأزمة النقل لأنها تلجأ إلى استئجار الباصات والميكروباصات، وبدلا من إيقاف قرار لا ينفذ يجب إلزام القطاع التعليمي الخاص باستيراد احتياجاته من الباصات، أما الجهات الحكومية فهي ممنوعة منذ عقود من استيراد باصات لنقل عمالها!!
أكثر من ذلك، توحي بعض القرارات وكأنّ اللجنة الاقتصادية لم تدرس منعكساتها، فمنع استيراد بعض الموا د التي لا يوجد بديل محلي لها، كالتمر مثلا، يعني إغلاق معامل وصناعات وتشرد آلاف العمال.
كما تعتير الاتصالات قطاعا تجاريا كبيرا يؤمن الدخل لآلاف الأسر وقرار إيقاف استيراد تجهيزاته تسبب بإغلاق محال الموبايلات والإكسسورات من جهة ورفع أسعار المتوفر منها من جهة أخرى!
أما المثال على المستفيدين من قرارات المنع فهم مخزنو المواد، فقد رفعوا سعرها فورا بنسب لاتقل عن 25 %!
وبالمقابل، فإن القرار 790 الذي سمح باستيراد الأقمشة المصنرة أغضب أصحاب المعامل وبخاصة في مدينة حلب وطرح تساؤلات مشروعة من قبيل: هل استيراد الأقمشة المصنرة يضرب الصناعة الوطنية أم يحقق المنافسة ويمنع احتكار المادة؟
لقد اشعل القرار حربا علنية بين الصناعيين وتحديدا بين مصنعي الألبسة والأقمشة كان أبرزها المواقف المتناقضة لرئيس اتحاد الغرف الصناعية ونائبه إلى حد “التلاسن” غبر صفحات التواصل الاجتماعي!
وهذا دليل على أن هناك من اعتبر قرار السماح باستيراد الأقمشة المصنرة في محله لأنه يؤمن المادة لمصنعي الألبسة، وهناك من اعتبره كارثيا لأنه سيغلق مصانع الأقمشة.. فأين الحقيقة؟
ماذا يتضمن القرار؟
استنادا إلى موافقة رئيس الحكومة على توصية اللجنة الاقتصادية رقم 36، تاريخ 20/ 9/ 2021، أصدر وزير الاقتصادد القرار 790 بتاريخ 4/ 10/ 2021 الذي يسمح باستيراد مادة الأقمشة المصنرة غير المنتجة محليا لكافة المستوردين وذلك وفق آلية محددة.
وتوحي القراءة المتأنية لهذا القرار بأن استيراد المادة لن يقتصر على مصنعي الألبسة بل يشمل جميع المستوردين، وهو مقتصر على الأقمشة غير المنتجة في المصانع المحلية، وبالتالي ما مبرر المخاوف التي عبر عنها آلاف مصنعي الأقمشة المصنرة؟
ربما يتوقع الصناعيون المتضررون من القرار دخول أقمشة ومستلزمات لها بديل وطني كما يحدث مع المستوردات الأخرى، إلا في حال تمكنت وزارة الاقتصاد من تطبيق آلية محددة لاستيراد الأقمشة المصنرة غير المنتجة محليا!
وزارة الاقتصاد تقول في قرارها أن استيراد هذه المادة يُحصر عبر المرافىء البحرية السورية وإجراء كشف حسي عليها من قبل مختصين من مديرية الجمارك وخبراء في الأقمشة من اتحاد غرف الصناعة السورية لتدقيق البضائع المستوردة وتحديد مدى مطابقة الواقع الفعلي للبضاعة المستوردة مع إجازة الاستيراد الممنوحة وبيان التخليص من حيث “النوع والكمية والمواصفة ومنشأ البضاعة” للتأكد من عدم إدخال عدد من الأقمشة التي تصنع محليا (قماش شنغل قطن.. مخمل وجه واحد.. فليكس.. بطانة بأنواعها.. توفليس.. بشكير.. فرو قصير التيلة.. جاكار.. نصف جاكار.. انترريب.. أنزو.. ريبه.. معكوسة.. انترلوك). وحسب القرار تقوم الأمانة الجمركية المعنية باتخاذ كافة الإجراءات القانونية اللازمة بحق المخالفين في حال ثبوت مخالفة وذلك استنادا لتقرير الكشف المشار إليه أعلاه.
وفي حال تصنيع أنواع أخرى من الأقمشة المصدرة محليا، إضافة للأصناف المشار إليها أعلاه، يتم تشكيل لجنة من وزارة الصناعة والجهات المعنية وبمشاركة اتحاد غرف الصناعة السورية للتحقق والتأكد من الصنف الجديد المصنع ليتم إضافته إلى قائمة الأقمشة المصنرة المنتجة محليا.
ووفق القرار يستمر استيراد الأقمشة المصنرة بالنسبة للصناعيين، بموجب القرار رقم 364 لعام 2019 المتضمن حصر استيراد الأقمشة المصنرة من كافة البنود الجمركية وكافة النمر، بأصحاب المنشآت الصناعية القائمة، وتعمل بناء على كشف حسي وفق التخصصات المحددة لها من مديرية الصناعة المعنية وضمن طاقتها الإنتاجية الفعلية.
وعلى الرغم من هذه التوضيحات والشروط، أثار القرار ردود فعل سلبية معارضة وأخرى مؤيدة ولكل مبرراته التي تحركها مصالحه، والجميع يؤكد على المصلحة العامة للبلاد دون أي إشارة للعباد!!
قرار كارثي
فور صدور القرار رقم 790، ناشد رئيس اتحاد غرف الصناعة السورية، المهندس فارس الشهابي، رئيس الحكومة بالعدول عنه!
وبما أن القرار حصر الاستيراد بالأقمشة غير المنتجة محليا، فلماذا وصفه الشهابي بأنه قرار كارثي ومدمر للصناعة النسيجية بالكامل؟
لقد اعتبر الشهابي قرار وزارة الاقتصاد بأنه “أخطر قرار يعترض الصناعة منذ سنوات لأن ارتداداته لا تنعكس فقط على الأقمشة المصنرة، بل تطول كل ما هو متمم لهذه الصناعة العريقة، واستمرار العمل به سيؤدي إلى إغلاق معظم مصانع الأقمشة المصنرة والمصابغ ومعامل الغزل، وإلى نزوح هذه الصناعات إلى خارج البلد وتحول العديد من المنتجين إلى مستوردين بدل تحفيز المستوردين للتحول إلى الصناعة”!
ترى؟ هل هذه المخاوف صحيحة أم مبالغ فيها؟ وهل يشكل القرار ضربة قاضية لجهود إعادة الصناعيين السوريين من مصر لأن معظمهم يعمل بصناعة النسيج؟
سواء كانت المخاوف مبررة أم لا، فمن المؤكد أن وزارة الاقتصاد لم تناقش القرار بالعمق ولا بانعكاساته المباشرة، ومن الواضح أنها تبنت وجهة نظر مصنعي الألبسة، وتجاهلت رأي ومخاوف مصنعي الأقمشة!
ويؤكد الشهابي أن القرار 790 “مخالف لتعميم رئاسة الحكومة بتاريخ 22/ 9/ 2021 حول توصيات اللجنة الاقتصادية في جلستها رقم 36، عقب اجتماعها مع ممثلي اتحاد غرف الصناعة قبل ذلك بيومين، والقاضي بإيقاف آلية المخصصات وحصر استيراد الأقمشة المصنرة التي لا تنتج محلياً بالمنافذ البحرية وإعادة دراسة أسعارها الاسترشادية، منعاً للفساد الذي سببه الاستيراد حسب المخصصات الصناعية..
فإذا كان القرار يخالف تعميم رئاسة الحكومة فكيف أصدره وزير الاقتصاد؟
الإحتمال الوحيد: رئاسة الحكومة طوت التعميم، أي اقتنعت بوجهة نظر نائب رئيس اتحاد غرف الصناعة المهندس سامر الدبس.. والسؤال: لماذا؟
متوازن ويمنع الاحتكار
وعلى عكس مخاوف رئيس اتحاد غرف الصناعة، فإن نائبه سامر الدبس، والذي يرأس أيضا غرفة صناعة دمشق وريفها، أكد أن صناعيي الألبسة في الغرفة والاتحاد “أبدوا كل الارتياح للقرار الذي أتى منسجماً مع الحركة التصديرية والطلب على المنتجات السورية التي تحتاج بشكل كبير للأقمشة المتنوعة التي تلبي الأذواق التي اشتهرت بها صناعة الألبسة السورية وتشهد طلبا متزايدا عليها ويتم التعاقد عليها في معارضنا النسيجية الداخلية والخارجية وهي المعارض التي يقصدها رجال الأعمال من كل الدول حتى أصبحت صناعة الألبسة السورية على خارطة خطة مشتريات الألبسة في الأسواق العراقية والليبية والخليجية..”.
وبيّن الدبس أن قرار وزارة الاقتصاد يساعد الصناعيين على تأمين الأقمشة التي لا تنتج محلياً بالمطلق، وهو ينقذ مئات المصانع التي كانت متوقفة قبل صدوره بسبب المنع.
وبرأيه، فإن هذا القرار يحقق العدالة بين مصنعي الأقمشة وبين مصنعي الألبسة كون السعر التأشيري للقماش المصنر هو 6 دولار، وهو سعر يحقق حماية المنتج، كما أنه يمنع الاحتكار وخاصة وأن القرار قد أعطى لاتحاد غرف الصناعة سلطة رقابية على المستوردات في المرافيء السورية مع الجمارك وبتفاصيل دقيقة لبنود الرقابة وهو ما يعطي الاتحاد قوة لحماية كل أطياف الصناعة السورية.
وردا على المعترضين قال الدبس: نحن كصناعيين نرى أن قرار وزارة الاقتصاد الأخير بخصوص الأقمشة المصنرة هو قرار صائب ومنطقي ويحمي عشرات الآلاف من المصانع والورشات التي تنتج الملابس وتعمل بالتصدير في دمشق وحمص وحماة واللاذقية وطرطوس
وسندعم القرار وسنقف في وجه كل من يحارب صناعة الملابس لمصلحة بعض المهربين الذين يهربون الأقمشة من تركيا ويدّعون بأنهم صناعيون، وقد حاولوا إغلاق صناعة الألبسة في دمشق وريفها ويرفعون شعارات شعبوية فيسبوكية بعيدة عن الواقع.
وأصدرت غرفة صناعة دمشق وريفها بياناً اأكدت فيه أن القرار جاء بناء على ضرورة إيجاد مواد أولية صنعية ذات مميزات خاصة توافق أغراضاً معينة وخدمة لأنواع متعددة ومختلفة من الإنتاج ومواكبة المواصفات الجديدة والمحسنة وملائمة لاستعمالات معينة وأوضحت أن القرار الخاص باستيراد الأقمشة المصنرة ضمن حدود مخصصات الصناعيين – والذي يعتبر تأكيداً للقرار السابق 364 الصادر في العام 2019 الذي أنصفت فيه صناعة الألبسة والصناعة النسيجية في أن واحد – هو قرار حكيم ويتضمن أفكاراً جديدة تتماشى مع الحالة الاقتصادية الراهنة والقوانين التي تخص الاستيراد والقطع وغيرها.
وأكدت غرفة صناعة دمشق وريفها أن قرارات المنع لا تحمي المنتج المحلي، إنما الحماية هي بجعله منافساً للمنتج المستورد بالسعر والجودة وتطوره وخاصة أن المنتج القطني يشهد ارتفاعاً عالمياً بالتكاليف إضافة إلى ارتفاع أجور الشحن العالمية التي ترفع سعر المنتج المستورد، وبالتالي ترفع بشكل إيجابي منافسة المنتج المحلي وتعطيه الحماية الكافية التي تؤدي إلى تطور صناعة الألبسة كما كانت هذه الصناعة بين العام 2000 وحتى 2011 التي شهدت شهرة عالمية غزت وقتها الصناعة النسيجية بكل أشكالها الأسواق الخارجية.
وزير الصناعة يسوق للقرار
وشهدت قاعة الاجتماعات في غرفة صناعة حلب حواراً بين وزير الصناعة وصناعيي النسيج، الذين طالبوا بتغير بعض بنود قرار السماح باستيراد الأقمشة المصنرة، أو حتى إلغائه بصورة كاملة على اعتبار أنه لم يأخذ رأي غرفة صناعة حلب أو أي من صناعييها بهذا القرار مع أن الصناعات النسيجية تتركز في مدينة حلب.
وشرح وزير الصناعة حيثيات القرار، الذي جاء بعد رصد عدد المنشآت التي تنتج الأقمشة المصنرة، وقال بأنها غير كافية لصناعة الألبسة، فاليوم توجد ورش كثيرة تتعرض للابتزاز، ونعمل اليوم على منحها التراخيص اللازمة من أجل تشجعيها على التحول إلى حرفة أو صناعة، مشيراً إلى أن القرار قديم، وكانت الآلية تتضمن بعض الخلل، لافتاً إلى أنه قد يحصل هناك بعض الإشكاليات عند وصول البضائع إلى المرفأ وتخليصها من الجمارك، لذا اشترط القرار ألا يتم تخليص البضاعة والسماح بدخولها إلا بوجود لجنة من غرفة الصناعة تحدد البنود الجمركية بدقة بحيث لا يستبدل بند بآخر.
الخلاصة
ما من قرار اقتصادي يصدر إلا ويلحق الضرر أو المنافع بشريحة من الفعاليات الصناعية والتجارية، وبتعبير أدق القرارات الاقتصادية هي مرآة للشريحة الأقوى في المجتمع!
وبما أن المواطن هو الحلقة الأضعف فإن اللجنة الاقتصادية غير معنية بالموافقة على قرارات ترفع القدرة الشرائية لملايين الأسر السورية لتتمكن من شراء احتياجاتها من الألبسة الجاهزة ـ التي صدر القرار 790 لصالح مصنعيها.. ولو مرة واحدة كل عدة أعوام!!
البعث