بعيداً عن الملابسات الأخيرة التي لحقت بموضوع أكياس النايلون المعدة للخبز التمويني لجهة مطابقتها للمواصفة القياسية السورية، ومدى صلاحيتها للتغليف، فقد شاب تأمين هذه السلعة الكثير من المخالفات الإدارية والقانونية والمالية، لاسيما تلك التي تتعلق بآلية الشراء وسبر الأسعار، كما شابته الصفقات المشبوهة التي نتجت عنها خسائر تقدر بمئات الملايين، حيث تم جلب أكياس رديئة الصنع بأسعار مضاعفة عن أسعار السوق.
كل ذلك تم رصده في تقرير الجهاز المركزي للرقابة المالية ذي الرقم 4/ش .ع. خ الصادر في الشهر التاسع من العام الفائت، والذي رصد مخالفات لقانون العقود، أبرزها: عدم اعتماد لجان الشراء على استدراج العروض، وعدم لجوء هذه اللجان إلى سبر الأسعار، حيث تم اللجوء في غالب الأحيان إلى الشراء بالفاتورة.
التقرير الذي حصلت “البعث” على نسخة منه أشار إلى عدم وجود اتفاق مدوّن بين المورد وتلك اللجان. وبحسب التقرير فإنه تم الاعتماد على العرض الوحيد من قبل اللجان، وهذا الأمر مخالف لتوجيهات الجهات الرقابية، حيث نصت التوجيهات على عدم الأخذ بالعرض الوحيد عند التعامل ببضاعة الأمانة، وذلك بهدف الحصول على السلعة الأفضل بالسعر الأنسب.
وفي النتائج خلص التقرير إلى جملة من المقترحات والتوصيات أبرزها: الحجز الاحتياطي على الأموال المنقولة وغير المنقولة للجان الشراء بالأمانة، وبعض المديرين المركزيين والفرعيين في كلا المؤسستين (“السورية للتجارة” و”السورية للمخابز”)، إضافة إلى حجب الترفيع عنهم، وتحصيل مبلغ 597.788 مليون ليرة سورية بالتكافل والتضامن فيما بينهم، كما وضع التقرير مخالفات وزير التجارة الداخلية وحماية المستهلك الأسبق، بتصرف رئيس مجلس الوزراء، وفرض عقوبة حجب الترفيع بحق المدير العام الأسبق للسورية للتجارة، وذلك على خلفية تورطهما في هذا الملف.
مدير عام المؤسسة السورية للمخابز مؤيد الرفاعي نسف كل ما جاء في التقرير، وقال إنه لا يعير أهمية لما جاء فيه بحجة أنه غير مهني، ويحتاج إلى الكثير من التدقيق، مفضّلاً عدم الخوض في التفاصيل أكثر من ذلك، في حين بيّن أحد المعنيين في المؤسسة السورية للمخابز وجود خلل وفوضى في آليات الشراء لهذه المادة من خلال الشراء المباشر الذي تم عبر فروع السورية للمخابز، وأيضاً عبر لجان الشراء بالأمانة في السورية للتجارة، مضيفاً أن حاجة السورية للمخابز من هذه السلعة تقدر بآلاف الأطنان سنوياً، وبتكلفة مالية تصل إلى مليارات الليرات.
وبحسب الوثائق التي حصلت “البعث” عليها، رفع أعضاء لجان الشراء كتاب تظلّم إلى الجهاز المركزي للرقابة المالية خلال الشهر التاسع من العام الفائت يرجون فيه إعادة النظر بالنتائج الواردة بالتقرير المذكور، لاسيما لجهة الأسعار المتوصل إليها من قبل لجنة الخبرة المشكّلة من قبل الجهاز المركزي، وأملوا بتشكيل لجنة حيادية لدراسة الأسعار بشكل دقيق. وبدوره، ردّ “الجهاز” على كتاب التظلّم بأنه لم يلحظ تقديم وثائق جديدة من قبل المتظلّمين التي من شأنها تعديل ما تم التوصل إليه من مقترحات التقرير، وعليه فإن الجهاز يؤكد على مقترحاته المذكورة.
المفارقة المدهشة في كل ما ذكر هو أنه من المفترض الأخذ بتوصيات التقرير، لكن الذي حصل هو العكس تماماً، حيث تمت ترقية غالبيتهم، فأحدهم أصبح مديراً مركزياً، وآخر أصبح مديراً فرعياً، ومنهم من أصبح معاون مدير عام، وآخر آمر صرف لصندوق يتبع للوزارة فيه عشرات المليارات من الليرات السورية؟!
المفارقة الأخرى أن وزير التجارة الداخلية وحماية المستهلك الدكتور عمرو سالم وجّه المديريات المعنية بتنفيذ ما جاء في التقرير، لكنه عاد عن قراره وفضّل التريث بالتنفيذ ريثما تتبلور بعض النقاط العالقة في هذا الملف!
هنا لابد من التساؤل: طالما هناك مخالفات واضحة ومثبتة في متن التقرير، فلماذا التريث؟ وهل المصلحة العامة تتطلب تجاهل تقرير صادر عن جهة رقابية عليا؟ وأين الإجراء الاحترازي تجاه المشار إليهم في التقرير؟ وهل إبقاء الوضع على حاله، وعدم الاكتراث، هو الحل المطلوب؟
.. الأنكى من كل ذلك هو الموافقة على ترشيح هؤلاء لاختبارات المديرين المركزيين وفقاً للبرنامج التنفيذي لمشروع الإصلاح الإداري الخاص بالوزارة؟
البعث