منذ وقت طويل، هناك تحول من عولمة أمريكية شبه قطبية يقودها الدولار بالكامل إلى عولمة جيوسياسية جديدة متعدّدة الأقطاب، حيث لن يعود للدولار أي هيمنة، ولا حتى لليورو أو الجنيه الإسترليني. فالاتجاهات واضحة والحركة الآن واضحة وعنوانهما: “عهد الدولار الأمريكي يقترب من نهايته أمام أعين الجميع، وهذا لا ينبغي أن يفاجئ أحداً”.
فمن جهة، هناك الكثير من الدولارات في الاقتصاد بالوقت الحاضر، وهذه الكثرة تدلّ على انهيار العملة الخضراء في الاقتصاد العالمي، انهيار يرجع سببه المباشر إلى طباعة كميات هائلة من الدولار في السنوات الأخيرة، وهذا ما يفسّر التضخم الملحوظ، الذي يعزى جزء منه -حسب خبراء الاقتصاد- إلى النفقات الباهظة التي تطلبتها إجراءات مواجهة وباء كورونا، وكذلك بسبب عدم التنظيم لسلاسل التوريد أثناء الجائحة وبعدها، والناجمة عن قرارات الدول بفرض ضوابط وحجز ووقف إنتاج، حيث لم يكن ذلك ضرورياً في معظم الأحيان.
وعليه فإن عملية إعادة ترتيب ما تمّ تعطيله تكلف الكثير من الوقت والمال، وهذه الزيادة في التكاليف لعودة الأمور إلى وضعها الطبيعي، أو إعادة فتح السلاسل أو التحايل على مشكلات جديدة، كلها تؤدي ميكانيكياً إلى زيادة التكاليف اللوجستية التي تنعكس على ارتفاع الأسعار. وبالمثل، تؤدي السلاسل التي لم يتمّ استعادتها بعد إلى حالات نقص وتباطؤ تترجم، مرة أخرى، بشكل ملموس إلى زيادة في التكاليفة وبالتالي في الأسعار. وهذا كله يعزّز تضخم الأسعار بشكل مباشر، مدفوعاً إلى حدّ كبير بوجود كمية ضخمة من النقود “المطبوعة حديثاً” في السوق.
بالإضافة إلى ذلك، يفسّر الخبراء هذا التضخم أيضاً من خلال انخفاض القوة الشرائية للدولار، وبالتالي انخفاض قيمته مع جميع اللاعبين في الاقتصاد، حتى أن العقوبات التي تفرض حالياً على روسيا تضاف إلى هذه المشكلات اللوجستية، وتؤدي إلى المزيد من التأثيرات النقدية: من خلال إظهار أن احتياطيات العملة باليورو أو الدولار ليست محصنة ضد عمليات الاستيلاء التعسفية من قبل أوروبا أو الولايات المتحدة، فمن الواضح أن الغرب عرَّض للخطر أمن الأموال الموجودة في عهدته في كثير من الأحيان.
وبالنسبة للبلدان الأخرى، أصبح من الضروري النظر في استخدام العملات البديلة، وهذه الأخبار تضعف الدولار بشكل ملحوظ، حيث تدرس الهند حالياً المدفوعات المباشرة بالروبية والروبل مقابل تجارتها مع روسيا، دون المرور عبر الدولار، كما تدرس السعودية الآن قبول اليوان مقابل نفطها، مما سيزيد بشكل كبير من قوة العملة الصينية. علاوة على ذلك، فإن الحركة التي تتمثل في التخلص التدريجي من الدولار بالنسبة لدول معينة في الشرق الأوسط أو آسيا ليست جديدة تماماً، حيث تمّ ذكرها بالفعل خلال عام 2019، وتفكر بعض الدول، بجدية بالغة في ذلك، لدفع مواردها بعملتها أو بالذهب بدلاً من الدولار.
كل ذلك مؤشر على تشكل محور “العالم الآتي” خارج الدولار، على خلفية سؤال مزعج: هل يمكن السيطرة على تضخم اليورو والدولار؟..
قسم من الخبراء يشكك في هذا الأمر، بل وزيادة على ذلك يعتقدون أن هذا التضخم سيكون وسيلة مثالية لمحافظي البنوك المركزية لتحقيق هدفين عمليين للغاية: الأول يتمثل في إغراق الدول الغربية الرئيسية بالديون الحالية التي تراكمت عليها بشكل غير معقول حيث لا يمكنها سدادها، والهدف الآخر، الأكثر شراسة يتمثل في دفع السكان المعنيين بشكل عنيف نحو رقمنة كاملة لوسائل الدفع ومركزية حادة وحتى نهائية لهذه الوسائل.
وبذريعة مكافحة التضخم الذي يدمّر بالكامل القوة الشرائية لجميع أولئك الذين لا يمتصون مباشرة صنابير البنوك المركزية، يمكن بكل بساطة أن يتمّ فرض إنشاء عملات رقمية يتمّ إصدارها بالكامل من قبل تلك البنوك، يطلق عليها “العملات الرقمية للبنك المركزي”، وبدلاً من فتح حساب في بنوك الإيداع، يتمّ تخصيص حساب لكل مواطن مباشرةً في البنك المركزي للمنطقة النقدية التي يعتمد عليها (مثال: في البنك المركزي الأوروبي للمواطنين الأوروبيين، أو في الاحتياطي الفيدرالي للأمريكيين)، وسيكون هذا الحساب تحت رحمة هذه المؤسسات. فقد تمت دراسة الدولار الإلكتروني واعتبر حتى مطلوباً من قبل الكثيرين ممن يعتقدون أنهم يرون فيه وسيلة جديدة لتنظيم من يموله، ومعرفة من هم المحتالون السيئون وغيرهم من المحتالين الذين يتهربون من دفع الضرائب. وينسحب الأمر نفسه على اليورو الرقمي، حيث إن البعض، في البنك المركزي الأوروبي، يلعقون شرائحهم بمجرد التفكير في الأمر، وبالتأكيد لن ترضى البنوك المركزية الأخرى، وليس أقلها بنك إنكلترا، وبنك الصين، في البقاء خارج السباق.