سيناريو قصير لم يستغرق عرضه أكثر من ساعتين عبر وسائل التواصل الاجتماعي كان كفيلا بإحداث زلزلة لدى البعض الذي وجد في قرار إغلاق معمل وجباته السريعة “إندومي” تهديداً لأمنه الغذائي، لاسيّما وأن هذا المنتج استطاع غزو أغلب منازل السوريين ممن لاقوا بها حلاّ سريعاً لارتفاع أسعار جميع المواد الغذائية والخضار التي بات وجودها على موائدهم رفاهية مُطلقة، فتحضير هذه الوجبة بدقائق قليلة وتوفيرها للعبء المادي والزمني للكثير من الأمهات العاملات، ناهيك عن طعمها المنكّه “بالبهارات” مستحوذاً على بطون الصغار والكبار جعلها تحتل بجدارة لقب “وجبة”، ليأتي خبر إغلاق هذا المعمل كالفاجعة، واللافت اجتماع السوريين على ندب مصابهم الجلل لساعات رفضاً لقرار صاحب المعمل وعدم تصديقهم للخبر.
اقتصاد الإندومي
وعلى الرغم من إغلاق الكثير من المعامل بمختلف أنواعها وإنتاجها على مدار سنوات الحرب وما تلاها من سنوات حملت بين طياتها الكثير من العقوبات الاقتصادية والصعوبات التي أوصدت أبواب الكثير من المعامل إلّا أننا لم نسمع أي تعقيب أو ردة فعل أو دعوة لعودة الإقلاع من جديد مع تقديم التسهيلات التي ستقدّم لمعمل “الإندومي” بحسب ما أكده مدير المعمل في تصريحه الذي تلا قرار إغلاقه الفيسبوكي والذي بيّن فيه أن طي القرار جاء على خلفية وعود تلقّاها من وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك بوضع حلول للصعوبات التي تقف في طريق إنتاج المعمل، الأمر الذي أثار عشرات التساؤلات من قبل الصناعيين ممن لا يزالون منذ عشر سنوات برسم انتظار الدعم الذي طال أمده، في حين كانت الحلول الإسعافية سبّاقة لإنقاذ اقتصاد الإندومي الذي على ما يبدو – حسب رأيهم – بات قاطرة اقتصادنا الوطني بنظر الجهات المعنية التي ما زالت تضع العصي بعجلات إعادة دوران الكثير من المعامل ومن بينها معمل “الأمان” المختص بتجديد الدواليب، لاسيّما وأنه المعمل الوحيد في سورية بهذا الاختصاص، لكن – وحسب ما أكده لنا وليد عرجون، مدير المعمل – ما زال منذ سنتين بانتظار إخراجه من دوامة المعاملات الروتينية علماً بأن جميع الثبوتيات والأوراق المطلوبة والرخصة وغيرها موجودة على طاولة الجهات المعنية والتي لم تحرك ساكناً لأسباب غير واضحة، في حين محاباة المستوردين وبعض الصناعيين هي ما نلحظه في الكثير من المطارح، لافتاً إلى أن المعمل يوفر حوالي 90% من القطع الأجنبي على الدولة من خلال تأهيله للإطارات القديمة ومعالجتها بدلاً من استيرادها.
محاربة الصناعة الوطنية!
والمؤسف في حديث مدير المعمل ما ذكره عن “محاربة” الجهات المعنية المحلية للصناعة الوطنية بزيادة الأعباء على الصناعيين ومحاصرتهم بالضرائب والتأمين وقطع الكهرباء وفقدان المواد الأولية وغياب الصناعيين من لجنة ترشيد المواد الأولية وغيرها من العراقيل التي أدت للإغلاق الفعلي للكثير من المعامل على عكس ما جرى في معمل “إندومي”، والذي اقتصر على إعلان لم يخرج من دائرة الدعاية والتهديد بغية تأمين مواده الأولية، لاسيّما وأن قرار الإغلاق الفعلي يجب أن يرافقه إلغاء للسجل الصناعي وصرف العمال وغيرها من الشروط، لا الاكتفاء بنشر إعلان على صفحات التواصل الاجتماعي أدت لاحتكار المواد من قبل التجار ورفع سعرها لاحقاً كون المنتج مطلوب بشدّة لندخل من جديد في دوامة التاجر المحتكر والمستهلك المضطر للشراء وفقاعات ووعود بتأمين مستلزمات الإقلاع من جديد دون أن نرى شيء على أرض الواقع حتى الآن.
احتضار الصناعة
في المقابل، وجد بعض الصناعيين في قرار إغلاق المعمل أمرا مألوفا نتيجة الضغوط التي واجهها الصناعي كباقي الصناعيين، إذ لم ير الصناعي عماد قدسي بقرار إغلاق “إندومي” والتراجع عنه أي تهويل لاسيّما وأن الصعوبات والعراقيل التي تقف في وجه الصناعيين تزداد يوماَ بعد الآخر خاصة الصناعات التي تعتمد على استيراد المواد الأولية وصعوبة الحصول عليها وشح الأسواق من هذه المواد وارتفاع أسعارها، رافضاً تسمية ما حصل بأنه محاولات “تهديد” وإنما هو ناتج عن معاناة الصناعي من عدم تسهيل أمور استيراد مستلزمات صناعته وعدم توفر المحروقات وانقطاع الكهرباء لفترات طويلة اللذان هما العصب المشغل للصناعة المحلية.
تهويل إعلامي!
وبرأي الصناعي تيسير دركلت أن معمل “الإندومي” كباقي المنشآت الصناعية عندما يفقد أدوات إنتاجه سيعلى صوته، مشيراً إلى أن ما حصل من تهويل سببه مواكبة الإعلام لقرار الإغلاق وقدرته على إيصال صوته خاصّة وأن هذا المنتج يعتبر وجبة شعبية رخيصة هادفة لخدمة المستهلك والاقتصاد معاً كأي منشأة صناعية أخرى، لكن فعلياً لم يتلق المعمل سوى الوعود، مستنكراً الصمت الحاصل عند إغلاق الكثير من المعامل دون أن يعلم بها حتى الإعلام.
ولفت دركلت إلى أن أغلب المعامل اليوم تعمل بطاقتها الدنيا، كما أن هناك صناعات دخلت في مرحلة بطالة مقنعة وعدم قدرة على تسويق منتجها نتيجة الحصار الاقتصادي والإجراءات الصادرة عن البنك المركزي وغيرها من العراقيل التي تنعكس نتائجها على المستهلك والمنتج في آن معاً، وطالب الصناعي دركلت الجهات المعنية العمل على رعاية جميع الصناعات وسماع مشاكلها وعدم الاكتفاء بالوعود التي نعيشها اليوم، لاسيّما وأن جميع الصناعات اليوم تعيش مرحلة ركود قاس يرافقه ارتفاع سعر السلعة نتيجة ارتفاع المستلزمات على الصناعي الأمر الذي يؤدي إلى ضعف تصريفها نتيجة انخفاض القوة الشرائية للمواطن، لافتاً إلى أن وجود الكثير من الصناعات الخفيفة والمتوسطة والثقيلة في سورية لكنّ التركيز الحاصل اليوم على الصناعات الخفيفة “العمل بالتعبئة مثلاً”، يأخذ منحى مهم رغم أن الجدوى الاقتصادية من هذه الصناعة بسيط جداً، مبدياً خوفه من أن تنتهي صناعات من بلدنا أو تتوقف بشكل نهائي، وبهذا الشكل نساعد أعداءنا الهادفين إلى تحويلنا إلى دولة مستهلكة بدلاً من منتجة.
موت سريري
أزمة الصناعيين بمحاولة الإقلاع ما بعد الحرب كانت أكبر من إغلاق معاملهم خلال سنوات الحرب، بحسب رأي الاقتصادي اسماعيل مهنا، خاصّة وأن العبء تضاعف على الصناعيين نتيجة العقوبات الاقتصادية من الخارج ومحاصرة الداخل لهم (الجهات المعنية وقراراتها)، والكثير من العقبات التي لا يخلو مؤتمر أو ندوة أو لقاء إعلامي مع الوزارة والمعنيين بالشأن الصناعي إلّا ويتم التطرق لها والوعود بوضع حلول سريعة لا تُسفر في النهاية إلّا عن قرار إغلاق لمعمل وخسارة جديدة تسجل في مرمى اقتصادنا وصناعتنا العريقة التي بدأت بالهجرة والازدهار في بلدان عربية وأوربية والاندثار في بلدنا على حساب بعض المصالح الشخصية، ويرى مهنا أن قرار الإغلاق والتراجع عنه لمعمل “إندومي” لم يكن بغرض الدعاية كون المنتج مرغوب بشدّة ولا يحتاج لإعلان، لكنّ محاصرة المعمل بنقص مستلزماته الصناعية كباقي المعامل والضغوط الهائلة أدت لهذا القرار الذي قوبل بالرفض من قبل الوزارة التي سارعت بالتواصل مع مالكه وإعلامه برغبتها بتذليل صعوبات الإنتاج، لكن فعلياً لم نلمس أو نسمع عن أي إجراء جدّي لإعادة إقلاعه، لكن ما يُؤخذ على إدارة المعمل هو عدم التزامها الجدّي بالإجراءات القانونية لإغلاق المنشأة من جهة استخراج جميع الموافقات وإلغاء السجل الصناعي وغيرها من الإجراءات التي تسبق الإعلان الرسمي لقرار الإغلاق لتجنب احتكار المادة ورفع سعرها من قبل تجارنا المتصيّدين للفرص.
بالمحصلة، نحن اليوم بحاجة ماسة لمراجعة السياسات الصناعية المعتمدة والتي أدت إلى إهمال كبير لصناعتنا المحلية وعدم الجدّية في إصلاحها لتدخل الكثير من الصناعات في نفق الغيبوبة والخسارة وصولاً إلى الموت السريري.
البعث