مع استمرار العقوبات الاقتصادية الأحادية على سورية وتضرر الاقتصاد من هذه العقوبات إلى درجة أوجعت السوريين وخفضت من مؤشرات المستوى المعيشي لشريحة كبيرة من الدخول المتوسطة والمحدودة وجعلت عمليات التجارة الداخلية والخارجية تمر بظروف عصيبة.. كل هذه الأمور وأكثر تدفعنا إلى التساؤل عن إمكانية إصدار مصرف سورية المركزي لعملات إلكترونية قادرة على النفاذ من العقوبات الأحادية والظالمة التي يجب أن تكون خلفنا مع تصاعد الأحداث العالمية وتعقد الظروف الدولية، ما يستدعي أن تبحث كل دولة عن مقومات وجودها، وفي المقدمة الاقتصادي، لتفرض وجودها وتفاوض على مصالحها.. العالم يتغير وربما يكون هذا التغير يحمل فرصاً ثمينة لابدّ من الاستفادة منها.
لأن الأهم هو المضي إلى الأمام بقوة وجرأة، تأتي هذه المبادرات في سياق ما يحدث حالياً، فمن المعروف أن دول العالم ممثلة في البنوك المركزية هي من يملك حقوق إصدار النقد.
ويعد إصدار النقد أحد أبرز مظاهر استقلال الدول، لهذا تحرص الدول على إصدار عملاتها الوطنية فور تكونها أو استقلالها من الهيمنة الأجنبية، وتلعب العملات دوراً حيوياً وأساسياً في سياسة الدول الداخلية والخارجية، ولا شك في أن إصدار المصرف المركزي لعملات إلكترونية سيعيد للاقتصاد السوري والمصارف السورية والفعاليات التجارية الحكومية وغير الحكومية ممارسة أنشطتها وسياساتها النقدية والمالية وتحقيق أهدافها.
واليوم نرى بشكل متزايد أن الدول التي بدأت تتعرض لعقوبات قاسية نجحت في كثير من الحالات عبر إصدار النقود الإلكترونية من زيادة إنفاقها والاستدانة من المصادر الخارجية والداخلية، ورغم الظروف والتحديات الكبيرة التي مرّ بها الاقتصاد المحلي خلال السنوات السوداء العجاف يمكن أن يكون إصدار العملات الإلكترونية من مصرف سورية المركزي خطوة أساسية في مشروع إعادة الأعمار وإعادة الاعتبار لليرة السورية وكما هو معروف تعبر قوة العملة عن الثقة باقتصادات الدول وحجمها وأهميتها ونجاح سياساتها، لهذا تتركز استثمارات الديون والأدوات المالية في عملات الدول الاقتصادية الكبرى.
كما يعبر حجم الديون العالمية بالعملة، عن قوة اقتصاد الدولة المصدرة والثقة بها، إضافة إلى ذلك تمثل العملات القوية معظم احتياطات البنوك المركزية حول العالم.
وعموماً يعمل حجم الاقتصاد، وتطور وعمق أسواقه المالية، وسلامة الحوكمة والأنظمة المالية، وسيادة القانون، ونجاعة السياسات المالية والنقدية، واستقلالية البنوك المركزية أدواراً في رفع الثقة بأي عملة. وتستخدم العملة وحدة لقياس الناتج المحلي وتقدير التبادلات والقيمة وتخزين الثروة.
وتسهل النقود التبادلات فتحفز بذلك الأنشطة الاقتصادية وتدفع معدلات النمو الاقتصادي والاستثمارات.
وكل ما سبق يؤكد أن إصدار العملات الإلكترونية يعد أداة قوية لتجاوز العقوبات الاقتصادية وتحقيق الانتعاش الاقتصادي.
وقد ظهر في الأعوام الأخيرة العديد من العملات الرقمية، وعلى رأسها بيتكوين، وكانت أهم نقاط ضعفها أنها تتصف بالتقلب الشديد في قيمها، والسبب أنها تعمل خارج نطاق وسيطرة البنوك المركزية والرقابة القانونية.
ورغم ذلك رأى فيها البعض منافساً قوياً للعملات الوطنية، وأنها ستحل بديلاً عنها مع مرور الوقت، أما استخدامها كوسيلة تبادل، فما زال محدوداً حيث تحول تقلباتها الشديدة عن تسعير السلع والخدمات بها لفترة زمنية معقولة، ويستخدمها المتعاملون بها مخزناً للثروة أو أداة استثمار، وترتفع المضاربات بها من مقتنصي الفرص ومتقبلي المخاطر.
من جهة أخرى، تحول سرية ملاكها دون التعرف على مصادر تمويلها، ما يرفع مخاطر استخدامها غير المشروعة، كما يرفع مخاطر سرعة وضخامة تدفق رؤوس الأموال.
المركزية الأكثر أماناً وحسب رأي الخبير المصرفي أنس نغنغ حول نجاعة وأهمية إصدار المصارف المركزية للعملات الرقمية بدلاً من العملات الإلكترونية الخاصة، فإن الأمر بدأ يختلف مع ظهور مشهد جديد حيث يبدي ما يقدر 100 بنك مركزي اهتماماً بإصدار عملات رقمية خاصة بها، وبدأت ستة بنوك مركزية بالفعل في تجارب إصدار عملات رقمية أو تطوير بنيتها القانونية والتقنية.
ويعتقد أن تطوير البنوك المركزية عملاتها الرقمية والرشد في استخدامها وتطويرها سيكون أجدى من العملات الرقمية الخاصة، ويتوقع أن تتفوق عملات البنوك المركزية الرقمية على نظيرتها الخاصة لكونها أكثر مرونة، وأرخص في الإصدار، وأكثر أماناً.
ويؤهل دعم البنوك المركزية عملاتها الرقمية لتكون أكثر أماناً واستقراراً من مثيلاتها الخاصة شديدة الاضطراب.
وستحاول البنوك المركزية من خلال إصدار عملاتها الرقمية الخاصة، الاستفادة من ميزات العملات الرقمية التي يمكن نشرها بسهولها ومرونة أكثر، واستخدامها في حالات الكوارث والمناطق النائية من دون الحاجة إلى بنية مصرفية.
ويمكن أن توفر العملات الرقمية قنوات لتحقيق السياسات العامة بفاعلية أكبر من وسائل التبادل التقليدية، وسيساعد استخدام العملات الرقمية الرسمية على تجنب التعاملات الإجرامية والإرهابية وغير القانونية والتهرب الضريبي.
ويضيف نغنغ: من جهة أخرى فإن تأخر قرار المصارف المركزية بإصدار العملات الإلكترونية بات يهدد تطوير العملات الرقمية القطاعات المصرفية الحالية وأنشطتها المالية، لهذا فإن تطوير البنوك المركزية عملاتها الرقمية سيسعى- قدر المستطاع- إلى الحدّ من التأثيرات السلبية في القطاعات المصرفية وتقنين استخداماتها.
من جهة أخرى، فإن تطوير البنوك المركزية عملاتها الرقمية سيضع في حسبانها التأثيرات الممكنة والسريعة في حركة رؤوس الأموال، لذا ستحاول البنوك المركزية من خلال عملاتها الرقمية الحدّ من مخاطر التدفقات المفاجئة والضخمة لرؤوس الأموال من خارج البلدان أو إلى داخلها، إضافة إلى ذلك، سيساعد تطوير البنوك المركزية عملاتها الرقمية في تصميم عملات أكثر مواءمة لخصائص الدول وسياساتها ومستويات تطورها.
ولفت نغنغ إلى أن مصادر متعددة مما يقارب 100 بنك مركزي تبحث في إصدار عملات رقمية على مستويات متفاوتة، وشرعت ستة منها بالفعل في برامج تجريبية لإصدار عملات رقمية أو تطوير بنيتها القانونية والتقنية، وأصدرت البهاما فعلياً عملة رقمية تسمى الدولار الرملي “ساند دولار”، وأتاحت للجمهور استخدامها منذ عام تقريباً.
وتطور السويد بنيتها القانونية وقدراتها التقنية في إصدار عملة رقمية. كما أصدرت الصين الرنمينبي الرقمي الذي يستخدمه أكثر من 100 مليون شخص.
ويبدي البنك المركزي الكندي ومجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي والبنك المركزي الأوروجواني اهتماماً متزايداً بإصدار عملات رقمية.
عموماً، فإن الدول ممثلة في البنوك المركزية لم تتخلَّ سابقاً عن احتكارها إصدار العملات التقليدية، ولا أعتقد أنها ستتنازل مستقبلاً عن نفوذها في الاحتكار والسيطرة على إصدار العملات الرقمية أيضاً، لأن التنازل عن امتيازاتها في إصدار العملة يحدُّ من هيبتها ونفوذها وقوتها وقدراتها على تنفيذ سياساتها، وسيساعد إصدار البنوك المركزية عملاتها الرقمية، الدول على ضمان استقلاليتها، وتصميم ما يناسبها من هذه العملات سواء برفع شمولية الدعم والتحويلات والمدفوعات المالية وإيصالها إلى الشرائح السكانية المختلفة والمناطق الجغرافية النائية أو قليلة السكان.
كما أنه بالإمكان الاستفادة منها في زيادة المحصلات الضريبية من خلال التصدي للتهرب الضريبي المستخدم للعملات الرقمية الخاصة، وسيزيد استخدام العملات الرقمية من إمكانية وصول شرائح مجتمعية معينة إلى الخدمات المالية، كما يمكن استخدامها كوسيلة احتياطية للقنوات المالية الاعتيادية.
تشرين