عدم توازن وعدم استقرار يشهدهما سوق العقارات، فقد ارتفعت الأسعار مؤخراً بطريقة خيالية، تزامن ذلك مع ارتفاع أسعار مواد البناء بشكل كبير، ما أثّر سلباً في السوق، ولاسيما حركة البيع والشراء، بينما يرى القانونيون أن العقار يخضع للعرض والطلب، والعقد شريعة المتعاقدين، حيث إن الطرفين غير ملزمين بتحديد سعر العقار، الأمر الذي أدّى إلى فوضى في سوق العقارات.
جمود
بعض أصحاب المكاتب العقارية يؤكدون أن سوق العقارات يشهد جموداً في حركة البيع والشراء منذ عدة أشهر، وقبل قرار رفع سعر مواد البناء، لكن في المقابل يشهد نشاطاً مقبولاً في حركة الإيجار، موضحين أن الإيجار يختلف بين منطقة وأخرى، حتى في العشوائيات، حيث يتراوح إيجار البيت بين ٣٠٠ – ٥٠٠ ألف ليرة شهرياً، بينما يتراوح في المناطق المنظّمة بين ٨٠٠- ١.٢ مليون ليرة ، وذلك حسب موقعه والخدمات الموجودة فيه، مشيرين إلى أنّ سعر البيت بمساحة ٨٠ متراً على الهيكل وصل إلى 50 مليون ليرة في العشوائيات، أما في المناطق المنظمة فوصل إلى ١٥٠ مليوناً .
الجلالي: مقولة «العقار لا يفقد قيمته» خاطئة، إذ ينخفض سعره عندما يقلّ الطلب عليه
يخضع للعرض والطلب
يرى والخبير بالشأن العقاري الدكتور محمد الجلالي أن القرار الأخير الذي صدر بخصوص رفع أسعار الإسمنت ليس له أثر كبير على أسعار العقارات، والسبب أن السعر يحكمه عاملان، الأول هو التكاليف وهذا يحكمه العرض، والثاني هو عامل الطلب وهذا يحكمه الدخل، مشيراً إلى أن أسعار العقارات ارتفعت لتواكب التضخّم، لكن هذا الارتفاع رافقه جمود في عملية الاستثمار العقاري وبناء وحدات سكنية جديدة، أو إذا لم يكن جموداً فهو تباطؤ في حركة إنشاء وحدات سكنية جديدة بسبب ارتفاع التكاليف، ولفت إلى أنّ هذا التباطؤ وأيضاً التراجع الكبير في الدخل الذي شهده الناس نتيجة ارتفاع المستوى القياسي للأسعار أدّيا إلى تراجع الطلب على المساكن، منوهاً بأن المشكلة كانت قائمة قبل رفع سعر الإسمنت وستبقى بعد رفعه.
مليون ليرة تكلفة المتر المربع
وأضاف الجلالي إنّ رفع سعر الإسمنت يذهب إلى المعامل بسبب نقص عدد المعامل الموجودة نتيجة تراجع الاستثمار، لذلك فإنّ هذا الرفع هو تصحيح لوضع معامل الإسمنت، بحيث تستطيع أن تغطي تكاليفها أكثر مما هو زيادة للأسعار، مبيناً أن تكاليف البناء على الهيكل تختلف بحسب التصميم الهندسي، والإضافات، وفيما إذا كان البناء منظماً أو شبه منظم أو غير منظم، ويمكن أن تصل تكلفة متر مربع من البناء على الهيكل إلى مليون ليرة ، لكن هذه التكلفة ستصبح أعلى من ذلك إذا ما تمت إضافة عدد الأقبية والأعمال تحت الأرضية، وهذا سيحمّل الشقة السكنية تكاليف إضافية تتراوح بين 50- 100%، لذلك من هنا نقول إنّ تكلفة البناء لشقة من 80 إلى 100 متر ستصبح أكثر من مئة مليون ليرة، أما مع الإكساء فسيتضاعف السعر لأن تكاليف الإكساء كبيرة مقارنة بالدخل.
جمود في حركة البيع والشراء منذ عدة أشهر، وقبل قرار رفع سعر مواد البناء، في المقابل النشاط مقبول في حركة الإيجار
الإيجار غير مرتفع مقارنة بالتكلفة
بالنسبة للإيجار يبيّن الجلالي أنه ليس مرتفعاً إذا ما قورن بتكلفة البناء، وإنما متدنٍ، ولكن عند مقارنة الإيجارات بالدخل تصبح المعادلة مستحيلة الحل، في حين إذا قارنّا الإيجارات منذ أربع أو خمس سنوات بالإيجارات في الوقت الراهن نجد أنها تقريباً إما تحافظ على سعرها بقيمة حقيقية لليرة، يعني خالية من التضخّم، أو أحياناً تتناقص.
ظاهرة الشقق الفارغة
وفيما يتعلق بظاهرة وجود الكثير من الشقق الفارغة سواء كانت على الهيكل أو “مكسيّة” ومغلقة ولا يوجد فيها سكان، يوضح الجلالي أنها ظاهرة موجودة في العاصمة دمشق والضواحي السكنية المحيطة بها، كما أنها انتشرت مؤخراً على امتداد القطر، فمن المؤكد أن هذه الأبنية تعود بشكل أو بآخر إلى أشخاص قد يكون جزء منهم يمتلك أكثر من مسكن، كشكل من أشكال الادخار للحفاظ على قيمة العملة أو الاستثمار، وقد تكون عائدة لأشخاص هم حالياً خارج البلد ويرغبون بالعودة عندما تصبح الفرصة مناسبة، وحتى يوجد بعض الأبنية والمرافق الحكومية تم بناؤها ولم تستكمل بسبب ارتفاع تكاليف الإكساء، مبيناً أنّ هذه الظاهرة مركّبة تتمثّل فيما تشهده البلاد من هجرة بسبب الظروف الاقتصادية، كما أنها تعكس سوء توزيع الثروة، وقد يكون أحد الأسباب له علاقة بالبيئة الاستثمارية العامة في البلد، حيث لا توجد فرص استثمار مربحة للناس .
آثارها السلبية
تتمثل الآثار السلبية لهذه الظاهرة حسب – الجلالي- أولاً أنها تجميد أموال كبيرة جداً في وحدات سكنية فارغة لا يستفيد منها أحد، كان يمكن لها أن تسهم في رفد الصناعة أو الزراعة أو عملية الإنتاج ودوران رأس المال في وحدات سكنية بصورة أكثر سرعة، بينما السلبية الثانية هي أن عملية البناء غالباً ما تتم على حساب أراضٍ قد تكون صالحة للزراعة وقد تكون فيها غابات، وتالياً خسارة في الغطاء النباتي لتحلّ محله كتل إسمنتية صرفت طاقة كبيرة في سبيل توفير المواد الأولية.
تحتاج دراسة شاملة
وبيّن الجلالي أن حلول هذه الظاهرة تحتاج إلى دراسة من الحكومة ومن القطاع الخاص والتفكير جديّاً في موضوع التنظيم وتراخيص البناء، حيث إن هذا الموضوع بحاجة إلى معالجة على مستوى الاقتصاد الكلّي، لأن معالجته لا تنحصر في القطاع العقاري وحده. فعندما تتحسّن البيئة الاستثمارية وتتغيّر الذهنية باتجاه الاستثمار مثل بناء مصانع – مشاريع زراعية كبيرة، حينها لن يكون الشخص بحاجة إلى أن يحافظ على مدّخراته في أبنية فارغة، منوهاً بوجود مقولة خاطئة بأنّ قيمة العقار فيه وأنه لا يخسر هذه القيمة المادية مع مرور الزمن، لكن هذه المقولة ليست دقيقة لأن العقار ينخفض سعره عندما يقلّ الطلب عليه.
إذاً في ظل الواقع الحالي لسوق العقارات، ما دور القانون في ضبطه وما عقوبة المخالفين لبنود العقد؟
يشير المحامي عبد الفتاح الداية إلى أنه فيما يتعلق بالعقارات (بيع وإيجار)، هناك الكثير من العوامل التي تؤثر فيها في أي مكان من العالم، بدءاً بالموقع والمساحة ووصولاً لحالة السوق، واليوم في الحالة السوريّة ظهرت خلال الحرب عوامل إضافية أيضاً.
العقد شريعة المتعاقدين
ولفت إلى أن العقد شريعة المتعاقدين، وهو ملزم للطرفين، وغالباً لا يذكر الأطراف الثمن الحقيقي للبيع أو بدل الإيجار الحقيقي، لذلك فإن مسائل بيع وشراء العقارات وتأجيرها يحكمها عرف السوق العرض والطلب والكثير من الاعتبارات، بالرغم من وجود سعر رائج للمتر الواحد بشكل قانوني ورسمي إلّا أنه بحسب رأيه يصعب على القانون إحصاء كل الاعتبارات الداخلة في تحديد الثمن والبدل (وجود طاقة شمسية اليوم للمصعد في البناء يؤثر في سعر العقار وفي بدل إيجاره!) وعلينا ألّا ننسى أن المؤجّر والمالك أيضاً طالهما ارتفاع الأسعار، إذ لا يمكن لأحدهما أن يشتري السلع الغذائية والدواء والمحروقات وفقاً لقيمتها الآن ويؤجر أو يبيع العقار وفق أسعار 2010.
وفيما يتعلق بالبيع، أشار الداية إلى أن القانون المدني السوري ذكر بشكل واضح عقد البيع والالتزامات المترتّبة عليه، ولكن فيما يتعلق بالثمن فهو خاضع لإرادة الطرفين.
الإيجار يخضع للقانون /20/
وبالنسبة للإيجار بيّن الداية أن هناك عدة قوانين حوله، وآخرها القانون رقم /20/ لعام 2015 حول العقارات المعدّة للسكن أو الاصطياف أو السياحة أو الاستجمام، والعقارات المعدّة لممارسة أعمال تجارية أو صناعية أو حرفيّة أو مهنة حرّة أو علمية، وأنه في المادة (1) من القانون المذكور أخضع المشرّع (لإرادة المتعاقدين) كل ما يتعلق بتأجير العقارات المعدة للسكن أو الاصطياف – السياحة – الاستجمام – العقارات المعدة لممارسة أعمال (تجارية – صناعية – حرفية – مهنة حرة – علمية منظمة قانوناً) أو المؤجرة للجهات العامة – الوحدات الإدارية – مؤسسات القطاع العام أو المشترك – المؤسسات التعليمية – المدارس- الأحزاب السياسية – المنظمات الشعبية – النقابات على مختلف مستوياتها – الجمعيات.
السعر تحكمه التكاليف وهذا مرتبط بالعرض، والثاني هو عامل الطلب وهذا يحكمه الدخل
محاكم متخصصة
وذكر الداية أنه كل ما سبق، عن كون العقد شريعة المتعاقدين، وقاعدة العرض والطلب، كل ذلك لا يعني أن مخالفة أحد الطرفين لبنود العقد أو مخالفة النظام العام معفاة من المحاسبة. ولأجل ذلك هناك محاكم مختصة تفصل في المنازعات ذات الصلة بالبيع والشراء والإيجار ونحو ذلك. حيث تفصل محكمة الصلح في دعاوى أجور العقارات وتقديرها وتخلية المأجور وفسخ عقد الإيجار وبطلانه وإنهائه والتعويض عنه وفي كل الخلافات الإيجارية مهما بلغت أجرة العقار أو المبلغ المدعى به، كاشفاً أن محكمة النقض تفصل على وجه الاستعجال في الطعون الواقعة على الأحكام الصادرة في دعاوى الإيجار، والعقوبات المتعلقة بمسائل الإيجار تصل للإخلاء والحبس والغرامات بناء على شكوى المتضرر.
الإسراع في عملية إعادة الإعمار
وأوضح الداية أنه لا يمكن التأثير بأسعار العقارات وبدلات الإيجار وأخذها باتجاه الانخفاض من دون زيادة العرض وذلك من خلال الإسراع في إعادة الإعمار والتوسع في بناء مناطق وضواحٍ سكنية جديدة فيها جميع الخدمات والبنى التحتية المطلوبة مع شبكة نقل ومواصلات لائقة وكافية، وذلك حتى لا تبقى العقارات وسط المدن هي الخيار الوحيد، سواء شراء أو إيجار، وتالياً تصبح هذه الحصريّة عاملاً أساسياً في تحديد الأسعار وارتفاعها بشكل مستمر من دون توقف ودون منطق أحياناً.
تشرين