بعيداً عن أسبابها المادية.. الاستقالات مؤشر خطير على تردي بيئات العمل!!

اختلف المشهد تماماً عما كان عليه في القرن الماضي، وحتى عام 2010، فالإعلان عن وظائف شاغرة في مؤسّسات الدولة لم يعد يغري أو يلقى اهتمام الكثير من الشباب، على الرغم من حاجتهم الماسة لفرصة عمل في ظلّ هذه الظروف الصعبة، ووصل الأمر إلى درجة هروب الموظفين من أماكن عملهم، وقد لاحظنا جميعاً في الفترة الأخيرة تزايد أرقام عدد حالات من يريدون الاستقالة، عدا عن الذين تركوا العمل وهاجروا.

بالطبع فور الحديث عن الأسباب أول ما يقفز إلى الذهن أنها مادية تتعلق بضعف الرواتب والأجور، مقارنة مع أجور القطاع الخاص، وبلغة الأرقام يبلغ سقف راتب موظف الفئة الأولى 15670، نسبة كبيرة من موظفي هذه الفئة في سن الخمسين، وصلوا هذا السقف وهم محرومون من “الترفيعة” كلّ سنتين والتي تبلغ 9% من الراتب المقطوع، وأغلبهم سيمضي 10 سنوات على هذا السقف، حتى وإن زادت الرواتب فلن يزيد السقف أو يُفتح!.

أكثر خطورة 
وإذا سلّمنا أن العامل المادي يشكل دافعاً رئيسياً للاستقالة، إلا أن هناك أسباباً أخرى أكثر خطورة، وخاصة عندما تكون أغلب الاستقالات من الكفاءات وأصحاب الخبرة الذين يصعب تعويضهم خلال فترة قصيرة، مما يتسبّب في إرباك حقيقي للعمل، سواء أكان عملاً إدارياً أم إنتاجياً، وهذا ما يدلّ بشكل مؤكد على عدم توفر بيئة مناسبة للعمل لا تقدّر جهد وتعب الموظفين المجتهدين والمبدعين في عملهم، بمعنى يوجد بيئة طاردة للكفاءات التي تُجبَر بعد الصبر الطويل على تقديم الاستقالة.
والسؤال: كيف نحافظ على الموظفين الأكفاء من أصحاب الخبرة في ظل هكذا بيئات؟!

عشرة أضعاف
في سؤال لأحد أساتذة الجامعة عن سبب هجرة الأساتذة إلى الجامعات الخاصة، أكد أنها تعطي أجراً يزيد بعشرة أضعاف عن الجامعات الحكومية، موضحاً أن الرغبة بالعمل في الجامعات الخاصة لا تقتصر فقط على الراتب الجيد، وإنما لتوفر بيئة عمل محفزة تساعد على الارتقاء المهني بشكل أفضل من الجامعات الحكومية، وهذا ما شكّل عامل جذب لخيرة الأساتذة الذين لا يشتكون فقط من ضعف الرواتب والحوافز، وإنما من عدم تقدير خبراتهم في الجامعة وهم يرون كيف تجري التعيينات الإدارية غير العادلة.
واستغرب الأستاذ الجامعي كيف تعمل الحكومة على رفع سن التقاعد لأعضاء الهيئة التدريسية إلى 70 عاماً للأستاذ والأستاذ المساعد وإلى 65 عاماً للمدرّس، بدلاً من أن تزيد الرواتب بنسب تغري الأساتذة للتمسّك بالعمل في الجامعات الحكومية، هذا عدا عن إصدار قرارات تعرقل انتقال الأساتذة، أو عدم السماح لهم بالتدريس في الجامعات الخاصة إلى حدّ رفض الاستقالة!.
وحول هذه الجزئية – منع الاستقالة – علق أستاذ جامعي آخر: “للأسف ما زالوا يتعاملون مع الموظف في المؤسسات كآلة عليها أن تعمل ليل نهار غير مدركين أن إتباع أسلوب القسر يقلل من الانتماء الحقيقي للمؤسسة ويضرّ بالإنتاج وجودته”، مضيفاً: نعم قد تتوقف الاستقالات بقرار ووفق شروط صعبة لكن من يضمن أن يعمل الموظفون بالطاقة والجودة نفسهما؟

استهتار مخيف!
خبير إداري يؤكد ما سبق، حيث يرى أن إيقاف أو منع الاستقالات لن يجدي نفعاً، بل يمكن أن ينعكس سلباً على المؤسسة، فمن تُرفض استقالته لن يعمل بجدية، وبالتالي سيصبح معطلاً للعمل بدلاً من أن يكون منتجاً، فهو سيعمل باستهتار، ولن يهمه إن كان الإنتاج بجودة عالية أو رديئاً، ولم يخفِ خبير الإدارة أن الغالبية العظمى من موظفي الدولة لديهم رغبة بتقديم استقالات مبكرة إن بقيت الرواتب على حالها دون إصلاح، وغياب التحفيز والتشجيع للموظفين من أصحاب الخبرات والكفاءات الذين اشتكى بعضهم من ضعف التواصل مع إداراتهم.
في السياق نفسه، أكد خبير موارد بشرية أن أسلوب الإدارة الذي يعتمد على إقصاء الكفاءات والتضييق على أصحاب الخبرة سوف يزيد من نسبة الاستقالات، فيما لو اتبع أسلوب الإدارة المرنة الرشيقة التي تعتمد على تحفيز الموظفين، سوف يساهم ذلك في تمسكهم بالعمل وبالتالي التخفيف من نسبة الاستقالات.

“بح موظفين”..!
في الاجتماع الأخير للمجلس العام للاتحاد العام للعمال حذّر العديد من رؤساء فروع الاتحاد في المحافظات من “خطر تفريغ القطاع العام من عمالته الخبيرة في حال تواصل تقديم موظفي القطاع العام استقالاتهم أو طلبات تقاعد حسب سنوات الخدمة وليس العمر الوظيفي”. وللأسف لم يلقَ ذلك رداً مناسباً من أصحاب المعالي، بل حينها زادوا الطين بلّة ونفوا إمكانية أي زيادة على الأجور والرواتب!

أسباب مقنعة 
ولدى سؤال أكثر من موظف تقدموا باستقالات مبكرة، بيّنوا أن السبب مادي بالدرجة الأولى، وإداري بالدرجة الثانية، فحسب قولهم “لم يعد مقبولاً أن تنهار قيمة الراتب إلى هذا الحدّ، بينما الأسعار تحسب على دولار السوق الموازي الذي تخطى الـ 12 ألفاً”!!.

لا عتب! 
إذا كان هذا هو تفكير الفئة المثقفة في المجتمع (أساتذة الجامعة) فلا عتب على موظف الدرجة الثانية وما دونها إن فكّر بترك العمل والهروب إلى القطاع الخاص أو العمل بمهنة حرة، فـ “الجوع كافر”، كما يقال.
خبير اقتصادي أكد أن الاستقالات لها انعكاسان سلبيان: الأول اقتصادي، وهو بحجم الكارثة لأنه سيساهم في خسارة الدولة لمليارات الليرات والعبء الأكبر سيكون على مؤسسة التأمينات، فيما يتمثل الأثر السلبي الثاني في هروب الكفاءات للقطاع الخاص أو الهجرة خارج البلد وهنا الطامة الكبرى، حسب قوله.

لم يعد يُحتمل!
بالمختصر، تزايد عدد أرقام الراغبين بالاستقالات من الوظائف الحكومية مؤشر خطير يحتّم على الجهات المعنية اتخاذ الإجراءات المناسبة لوقفها، وذلك بالعمل الجديّ على التحفيز المادي المجزي والمعنوي الذي يعطي الموظفين المجتهدين حقهم مادياً ويؤمّن لهم المناخ المناسب للإبداع في عملهم، ففي ظل تصاعد هجرة الكفاءات، البلد لم يعد يحتمل مثل هذه الخسارات التي إن استمرت ستربك عجلة الإنتاج والإصلاح الإداري، فإلى متى تبقى ملفات ونوايا وخطط إصلاح نظام الرواتب والأجور، والهيكلية الإدارية في مؤسّسات الدولة نائمة في الأدراج رغم ما نسمعه ونشاهده من حراك تضجّ وتضيق به مواقع التواصل الاجتماعي؟!.

البعث

شارك