تدور الكثير من الأسئلة في الشارع السوري حول الآلية التي تعتمدها الحكومة في تسعير الكثير من السلع، وهل تأخذ بالحسبان حجم الدخول الشهرية للمواطنين، أم تعتمد على حجم تكاليف الإنتاج فقط دون اكتراث بمدى تناسب هذه الأسعار مع القدرة الشرائية للمواطن.
هذه الأسئلة تُكرر مع كل قرار جديد لرفع الأسعار تصدره الحكومة، مع العلم أن الكثير من الأسعار ليست إلا حبراً على ورق، لا يعمل بها التجار لمبررات وأسباب عديدة أهمها عدم تناسب هذه الأسعار مع تكاليف الإنتاج، إضافة إلى أن المواد غير المتوافرة في الأسواق يجعل لها سوق سوداء بأسعار مرتفعة دون حسيب أو رقيب.
آلية تطلبتها ظروف الحرب
في هذا الجانب، يرى الأستاذ في كلية الاقتصاد بجامعة حلب الدكتور حسن حزوري في تصريح لـ«الوطن» أن الآلية الحكومية للتسعير في الوقت الراهن تطلبتها ظروف الحرب والحرب الاقتصادية وانعكاسها على الواقع، واستغلال هذا الواقع من البعض من التجار المستوردين أو من المنتجين، الأمر الذي نتج عنه ارتفاع أسعار الكثير من المواد الأساسية والسلع الضرورية التي يحتاجها المواطن نتيجة ممارسة عمليات احتكار أو نتيجة انعدام المنافسة الحقيقية، مبررين ممارساتهم بعدم استقرار سعر الصرف الذي أدى إلى زيادة تكلفة المستوردات للمواد ذات المنتج النهائي أو للمواد الأولية أو نصف المصنعة، ونتيجة لذلك قامت وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك بإعادة النظر بسياسة تحرير الأسعار التي كانت معتمدة منذ بداية القرن الحالي (عام 2001)، وألغت تحريرها وذلك لتنظيم السوق، وابتدأت تدريجياً بدراسة واقع أسعار السلع الأساسية والضرورية للمواطن وأعادت إخضاعها لسياسة تحديد الأسعار إما مركزياً عن طريق قرارات تسعير تصدر من الوزارة أو مكانياً من مديريات التجارة الداخلية في المحافظات، أو من المكاتب التنفيذية لبعض الخدمات المقدمة وذلك وفق التكلفة الفعلية التي يقدمها المنتج أو المستورد مع هوامش ربح لهم، مع تحديد أسعار البيع للجملة والمفرق.
واعتبر حزوري أن الحكومة نجحت بشكل نسبي بتوفير بعض السلع المدعومة من رز وسكر ومحروقات وغاز عبر البطاقة الذكية، ولكن ليس بشكل منتظم ولم تؤد هذه الآلية إلى حصول جميع المواطنين على مستحقاتهم، ما يضطرهم للجوء إلى السوق وفق أسعار العرض والطلب لتأمين إشباع حاجاتهم من المواد المذكورة ووفق مقدرتهم الشرائية، متابعاً: «ولكن فيما عدا ذلك فقد فشلت الحكومة بشكل كبير بضبط الأسعار ولم تستطع مؤسسات التدخل الإيجابي كالسورية للتجارة مثلاُ التأثير بذلك إلا بشكل محدود جداً».
طريقة التسعير.. بدعة سوريّة
وبيّن حزوري أنه رغم الإجراءات الصارمة والعقوبات الرادعة التي نص عليها المرسوم 8 لعام 2021، إلا أن الحكومة عجزت عن ضبط الأسعار لأسباب مختلفة أولها طريقة التسعير المعتمدة والتي تكاد تكون مميزة في سورية عن بقية الدول، واصفاً إياها بـ«البدعة السورية» كون التسعير يجب أن يخضع لقواعد علمية تفرضها العوامل الداخلية والخارجية لكل مؤسسة أو شركة أو بائع إضافة إلى قانون العرض والطلب، لذا فإن نشرات الأسعار الصادرة توضع كديكور في واجهة المحال ولا تطبّق إلا إن حضرت دورية من التجارة الداخلية وحماية المستهلك أو في حال وجود شكوى من المواطن، أما السبب الثاني فيتمثل بعدم ربط السياسة السعرية بالسياسة المالية والاقتصادية، فمثلاً يوجد هناك احتكار للاستيراد من عدد محدود من المستوردين ما يخلق انعدام المنافسة في السوق، إضافة إلى ارتفاع تكاليف الإنتاج والاستيراد والنقل والشحن وصعوبات تأمين القطع الأجنبي وفتح الاعتماد وعدم استقرار سعر الصرف الذي يستدعي لدى التاجر المستورد التحوّط من تقلبات سعره ما يؤدي إلى زيادة التكاليف.
السعر الموحّد إجحاف وظلم
وتابع:«ويضاف إلى الأسباب السابقة أيضاً زيادة تكلفة تحويل الأموال بسبب العقوبات المفروضة على المصارف السورية وعدم انتظام عمليات الاستيراد نتيجة صدور قرارات منع استيراد لفترة زمنية محددة تشمل في كثير من الحالات مواد أساسية وضرورية يحتاجها المواطن أو المنشآت الصناعية في عملية الإنتاج كالتمور مثلاً، كما أن زيادة تكلفة الشحن البحري نتيجة ارتفاع سعر الدولار وزيادة تكلفة التأمين على البضائع، وزيادة تكلفة النقل البري للداخل بسبب ارتفاع أسعار المحروقات وتحمل المنتجات مصاريف مستورة غير معلنة وغير قانونية، كل ذلك أدى إلى الفشل في ضبط الأسعار» مشيراً إلى أن فرض سعر مركزي واحد للمواد الأساسية يطبّق في جميع المحافظات يعد إجحافاً وظلماً نتيجة اختلاف تكاليف النقل للداخل بين محافظة وأخرى وتوقف الكثير من المنشآت الصناعية عن العمل والإنتاج بسبب ندرة المحروقات وغلائها أو بسبب التقنين الكهربائي الجائر، إضافة لصعوبة وصول المواد الأولية من الخارج نتيجة العقوبات الاقتصادية وارتفاع أجور اليد العاملة وخاصة في القطاع الخاص ما ينعكس على التكاليف.
وفي السياق، يرى حزوري أيضاً أن الحكومة فشلت في تقديم الدعم اللازم لقطاعات الإنتاج المادي وخاصة القطاع الزراعي، ما أدى إلى تراجع الإنتاج وخروج منشآت كبيرة من عملية الإنتاج في القطاع الحيواني كمنشآت الدواجن مثلاً أو النباتي وذلك في بعض المحاصيل الإستراتيجية، وهذا نتيجة زيادة تكاليف مدخلات الإنتاج كالأسمدة والبذار والمحروقات، إضافة إلى عدم توافر العديد من المواد الأساسية المستوردة أو المنتجة محلياً بالكميات الكافية لتحقيق التوازن بين العرض والطلب.
اقتراحات لضبط الأسعار
واقترح حزوري لضبط الأسعار أن يتم تشجيع المنافسة ومنع الاحتكار والسماح لأكبر عدد من المستوردين أو المنتجين بالدخول إلى السوق دون عقبات أو شروط تعجيزية، وعدم حصر الاستيراد بعدد محدد من المستوردين وأن يكون دور الوزارة الأساسي محاربة الغش والتدليس وضمان سلامة الغذاء وترك التسعير لآلياته الطبيعية باستثناء السلع والخدمات الحكومية وأسعار الأدوية، كما يمكن إلزام التجار المستوردين أو المنتجين بتداول الفواتير النظامية بين مختلف حلقات الوساطة التجارية وتفعيل عمل جمعية حماية المستهلك وجعلها أداة داعمة لمديرية حماية المستهلك ونشر الوعي الاستهلاكي وتعزيز ثقافة الشكوى لدى المواطن ودعم الإنتاج المحلي والعمل على تحقيق الاكتفاء الذاتي والأمن الغذائي وتخفيض الرسوم الجمركية على المواد الأساسية والضرورية وخاصة المواد الغذائية.
كما دعا حزوري إلى تطبيق السياسات التي كانت معتمدة في عقد الثمانينيات من القرن الماضي، وخاصة بين عامي 1985-1990، المتمثلة بالاستيراد تهريباً أي غض النظر عن المواد الضرورية والغذائية ومنع تصدير المواد الغذائية ولاسيما أن معظم أسعار المواد الأساسية كالرز والسكر والزيوت والحليب والقهوة في دول الجوار وفي مناطق خارج السيطرة تعادل نصف أسعارها في السوق السورية، رغم تسعيرها بسعر صرف السوق السوداء.
سياسات لم تحقق هدفها
وفي سياق آخر، اعتبر حزوري أن سياسات وزارة الاقتصاد المتعلقة بإصدار قرارات بمنع استيراد بعض المواد والسماح بها بعد فترة أخرى تحت عنوان ترشيد الاستيراد، ساهمت بعدم استقرار الأسعار وأدت إلى الاحتكار وندرة المواد في السوق وبالتالي التضخم وارتفاع الأسعار، على الرغم من أن الهدف منها هو توفير القطع الأجنبي اللازم للاستيراد وتخفيف الطلب على العملة الأجنبية.