في ظل إبقاء ملف إصلاح الوظيفة العامة “حبيس الأدراج”.. القطاع الخاص “يسرق” الموظفين..!

 

بين مسابقات التوظيف العامة التي تتحضّر لها وزارة التنمية الإدارية والخلخلة الواضحة في مؤسّسات وشركات القطاع العام، ما زلنا نلحظ معادلة مستحيلة الحلّ في البُعد المنظور لواقع عمل القطاع العام، ودوراناً على مدى أعوام في حلقة مُفرغة، ليشي الواقع الوظيفي المترهل بابتعاد فئة الشباب عن العمل في القطاع العام و”نفورهم” من التقدّم إلى مسابقات التوظيف، إذ لم تستطع الوظيفة العامة اليوم كسب الرهان في تمسّك المواطنين بها ورغبتهم بالعمل تحت مظلة هذا القطاع طيلة سنوات خدمتهم الوظيفية، ولاسيّما أنّها استطاعت خلال سنوات الحرب إعادة لملمة شتاتها وجذب العاملين إليها بعد خسارة القطاع الخاص في أغلب المطارح، إلّا أنها مرة أخرى عاودت الوقوع في الأخطاء الروتينية الإدارية من جهة مع سُباتها وحفاظها على دخل لا يكفي مصروفاً شهرياً لطالب جامعي، لنشهد حالة من التسرّب الوظيفي بأشكال وحيل لم تعد خافية على أحد، وعلى مرأى الجهات المعنية التي على ما يبدو لا زالت الرؤية ضبابية بالنسبة لها لما يُخفيه هذا التسرب من مآزق اقتصادية واجتماعية!.

تسرب وظيفي

ومن يراقب واقع عمل الكثير من مؤسّساتنا العامة يلحظ العشرات من المشكلات الجمّة التي أعدّ لها خبراء الاقتصاد والإداريون حلولاً واقعية تعمل على حلهّا والنهوض بها، إلّا أن أحداً لم يستجب لهذه المقترحات تحت حجج ملغومة، فبين فائض العمالة في الكثير من المطارح ونقصها في مطارح أخرى والتسرب الوظيفي وضعف الدخل وشحّ تدريب العاملين وقلّة خبرتهم في الكثير من المهام الموكلة إليهم، نصل إلى فقدان الثقة بعمل هذه المؤسّسات والإجماع بضرورة اقتلاع الأخطاء من جذورها، إذ يؤكد الواقع الملموس هجرة الكثير من العمالة خلال العامين الأخيرين إلى القطاع الخاص أو المهن والورشات التي باتت تُدرّ على عمالها أضعاف الأجر الشهري لهم في القطاع العام. وهنا يؤكد أحد المدراء الإداريين في شركة عامة تقديم أكثر من خمسة موظفين استقالتهم خلال شهر واحد بهدف العمل في القطاع الخاص الذي استطاع تقديم بيئة عمل مناسبة لهم مع مردود مادي يُرضي طموحهم ويتناسب مع مؤهلاتهم العلمية التي بدؤوا ينسونها خلال عملهم في القطاع العام الذي لا زال يبتعد في مسابقات التوظيف عن ربط المؤهل العلمي بالشاغر الموجود في تلك المؤسّسات.

“بحصة بتسند جرة”

ومن جهة أخرى نجد أن شريحة لا بأس بها لا زالت مُحتفظة بولائها للقطاع العام ظاهرياً، في حين استطاعت بطريقة أو بأخرى العمل على برمجة الدوام اليومي وإعادة هيكلته بحيث يتناسب طرداً مع عملهم الآخر في القطاع الخاص، من خلال الاتفاق مع رؤسائهم الإداريين على دوام لمدة ساعة يومياً أو تجميع الدوام أسبوعياً أو شهرياً بحيث لا يتعارض مع عملهم الآخر، بهدف الاحتفاظ براتبهم من القطاع العام على مبدأ “بحصة بتسند جرة”، وخاصّة مع فقدانهم قشة الأمل بتحسين أحوالهم المعيشية بما يتناسب مع ارتفاع الأسعار الجنوني، الأمر الذي دفع الكثيرين لخلق حلول سريعة مُرضية لمعيشتهم التي بدأت تنهار مع تراجع قيمة الليرة وتقّدم ارتفاع الأسعار وإصابته مراراً وتكراراً لمرمى جيوب المواطنين “المعتّرين”، ليكون الخاسر هذه المرة شركاتنا ومؤسساتنا على عين الجهات المعنية بعلاجها وإعادة “الوهرة القديمة” لها وجعلها مقصد وحلم جميع الشباب لا العكس.

أمراض إدارية

لا بدّ من الاعتراف بتفاقم الأمراض الإدارية في معظم مؤسّساتنا العامة، فلم يعد بالإمكان استمرار الاختباء وراء إصبعنا، وبرأي الاقتصادي إسماعيل مهنا، بتنا بأمسّ الحاجة للإصلاح الاقتصادي والذي يبدأ بخطوة التغيير الملموس بعمل أغلب شركاتنا ومؤسّساتنا التي تعمل لمجرد أداء مهامها الإدارية الروتينية والتي تعاني من فائض عمالة إداريين، منهم من يداوم بساعات عمل كاملة ومنهم من هو مجرد عبء مادي “أجره الشهري” لا يؤدي دوره فعلياً في هذه المؤسّسات ونجده كامل الولاء لعمله الثاني في القطاع الخاص، أو في مهنته التي اختارها كرديف لعمله الوظيفي. ولم يخفِ مهنا التسرب الوظيفي الكبير إلى ميادين العمل الأخرى بشكل علني من خلال تقديم استقالات العديد من العاملين في الدولة بعد أن فشلت فقاعات الأمل الواهمة بإخراج المواطن من عنق زجاجة الفقر والعوز الذي ساق الكثيرين منهم للتخلي عن شهاداتهم الجامعية والعمل في مهن وورشات تُغطي حاجاتهم المعيشية.

وعود خلبيّة

ويرى مهنا أهمية تشكيل لجان لإصلاح مؤسّساتنا وقطاعنا العام الذي ملّ من كثرة التنظير والمراوحة في المكان، إذ لا بد من الاستفادة من التجارب السابقة في نجاح عمل هذه الشركات والاقتباس من عوامل جذب القطاع الخاص للمواطنين بعد فقدانهم الأمان الوظيفي في القطاع العام، ولاسيّما بقدرته على مواكبة التطورات الحاصلة في السوق من آفات التضخم والغلاء المعيشي برفع الرواتب، ووضع قوانين وتشريعات تحمي الموظفين والشركات وتبديده لمخاوف العاملين به المتمثلة بعدم الاستقرار بالعمل تحت مظلته، وبالتالي استطاع خلال فترة وجيزة من انتهاء الحرب تحقيق الأمان الحقيقي للمواطن والشركات وحصول كل طرف على حقوقه بعدالة ومساواة، في حين لا زال القطاع العام برسم انتظار وعود خلبية وتصريحات رنانة دون تنفيذ أو تطبيق ولو بالحدّ الأدنى.

رفع متممات الرواتب والأجور

في المقابل وجدنا في مداخلات كثيرة لأعضاء مجلس اتحاد العمال الذي عُقد الشهر الفائت ما يؤكد حاجة قسم كبير من العمال ممن لا زالوا متمسكين بآلاتهم ومعاملهم رغم الغلاء المعيشي وتدني الأجور الشهرية لضمانات قانونية وتشريعية واجتماعية، إضافة إلى مطالبتهم برفع متممات الرواتب والأجور وشمل مهنهم بالمهن الخطرة لصرف البدل النقدي المطلوب لهم، ناهيك عن استجداء الكثير من أعضاء المجلس بضرورة توظيف عمال فنيين خلف الآلات، ولاسيّما مع النقص الكبير في اليد العاملة في أغلب الشركات وحصول سوء توزيع في اليد العاملة بعد ندب الكثير من العمال في الشركات المتضرّرة خلال الحرب على مؤسّسات أخرى وبقائهم فيها كموظفين إداريين حتى بعد عودة شركاتهم للإقلاع من جديد.

تطوير الوظيفة العامة

الباحث في الإدارة العامة سمير الإسماعيل يرى ضرورة الأخذ بالحلول الموضوعة على طاولة الوزارات المسؤولة عن تطوير الوظيفة العامة وعدم بقائها حبيسة الرفوف، مضيفاً: بتنا شهود عيان على حالة كبيرة من الترهل الوظيفي وتسرّب الكثير من الأمراض الإدارية إلى جسد وظائف القطاع العام وإنهاكه، ليكون لزاماً عليها اليوم التريّث في اختيار الإدارات الفاعلة القادرة على تشغيل العمالة في المؤسسة.

ويؤكد الإسماعيل على ضرورة إيجاد حلول إسعافية لزيادة الأجور ومتممات الرواتب لتتناسب طرداً مع الغلاء المعيشي والتضخم المتزايد، إضافة إلى إعادة توزيع العمالة بحيث نتخلّص من فقدان اليد العاملة في جهة وفائضها في جهات أخرى، وتطرق الخبير الإداري في حديثه إلى ما سمّاه العنوان العريض لإصلاح الوظيفة العامة والذي ما زالت الجهات المسؤولة مصّرة على تجاهله والمتمثل بربط مخرجات التعليم مع حاجة سوق العمل الفعلي، وعدم إغفال الخطط والدراسات لتطوير سياسات التحفيز للعاملين في الدولة، ولاسيّما المُرابطين خلف الآلات وفي خطوط الإنتاج الفاعلة والمُطوّرة للاقتصاد الوطني.

البعث

شارك