أوروبا ستُقيم في «اقتصاد الحرب» فترةً طويلةً

أكثر من ذلك، فإن النظام العالمي إذا ما انتظم في عولمة جديدة فإن أوروبا ليس لها مكان فيها. العولمة الجديدة كما يراها كبار الاقتصاديين حول العالم هي «عولمة في كتل» وأن أوروبا مقبلة على انهيار اقتصادي لن يسمح لها بأن تنتظم في أي كتلة.. ونقصد بالكتل هنا مجمل القوى العالمية الصاعدة التي سترث العولمة الحالية، وتعيد إنتاجها في عدة «عولمات» إذا جاز لنا التعبير.

هل هذا يعني أن أوروبا كتكتل اقتصادي وكاتحاد سياسي ستختفي؟

أغلب التوقّعات تذهب نحو الإجابة بنعم.. وأن أوروبا ستُختصر في ألمانيا وبريطانيا فقط .. وربما فرنسا.

ما أعلنه ماكرون لم يُعلنه صراحة بقية الرؤساء والمسؤولين الأوروبيين، وهم ليسوا بحاجة لذلك، جميعهم على نحوٍ عام يتحدثون عن مستقبل قاتم لأوروبا.. مع ذلك، فإن الوصول إلى مرحلة الإعلان – كما فعل ماكرون – يعني تثبيت المخاوف وتأكيد التوقعات.. وأن أيَّاً من الأوروبيين لن نسمعه يتحدث عن إمكانات التعافي، أو أن الحلول لا تزال ممكنة.. لن نسمع سوى حديث احتواء الخسائر ما أمكن.. وحديث عن استرضاء روسيا وطلب العفو والمغفرة من بوتين… هذا ما يفعله ماكرون، ولن يطول الأمر ببقية أقرانه ليفعلوا المثل.

لنوضح ما اقتصاد الحرب؟

هو اقتصاد تكون فيه الحاجة إلى الإنفاق العام والاستثمار مستمرة على نحوٍ متزايد، إذ يتم تدمير «رأس المال» القائم ما يؤدي إلى التضخم، وفي «اقتصاد الحرب» ليس من الممكن استخدام السياسة النقدية لمحاربة التضخم، بل يجب أن تسهل السياسة النقدية تمويل النفقات العامة الإضافية الضرورية، كـ”تحول الطاقة، وإعادة التصنيع، ودعم الأسر والشركات المتضررة من ارتفاع أسعار الطاقة، والإنفاق على الصحة، والبحث العلمي، والتعليم، والإنفاق العسكري”

وهذا يترتب عليه أن تكون السياسة النقدية «توسعية» وأن تتم المحافظة على أسعار الفائدة أقل من معدل النمو، حتى يكون من السهل تمويل الإنفاق العام الإضافي، وحتى لا يؤدي العجز العام إلى رفع أسعار الدين العام.. وهنا يكون هدف البنوك المركزية تسهيل تمويل الدول لأنها غير قادرة على محاربة التضخم.

وحسب الاقتصاديين، فإنه مع ظهور اقتصاد الحرب سينتقل العالم إلى «النظرية النقدية الحديثة» حيث تقوم الدول بنفقات عامة تراها ضرورية، أما لناحية اعتماد سياسات نقدية توسعية، فإن هذا أمر لا مفرّ منه بهدف أن تظل معدلات الفائدة منخفضة لتختفي بعدها البنوك المركزية ذات الأهداف التضخمية.

*** أوروبا.. اقتصادٌ جديد

ويضيف الاقتصاديون أن هذا النوع من السياسات النقدية هو ما ستعتمده أوروبا، وترى أنها تستطيع من خلاله تحقيق نوع من التوازن الاقتصادي في ظل انقلاب الأدوار المعتادة للسياسة النقدية والسياسة المالية، لكنه توازن له مخاطره التي من الصعب جداً تفاديها.

– أولها.. التضخم الذي سيأتي من التوترات في أسواق الطاقة، وهذا التضخم لا يمكن احتواؤه بالسياسات النقدية وفق منطق «النظرية النقدية الحديثة» بل باتباع سياسة موازنة تقييدية لأن اقتصاد الحرب يتميز بنفقات عامة عالية هيكلياً، وتالياً فإن احتواء التضخم لا يكون إلّا على شكل زيادات ضريبية.

– ثاني المخاطر هو «فقاعات أسعار الأصول» إذ يجب أن تظل أسعار الفائدة أقل من معدلات النمو، وبما يدفع نحو رفع أسعار الأسهم والعقارات وقيمة الشركات، وهنا تتصدر بشكل أساس «الفقاعة العقارية» لأنها تثير خطر حدوث أزمتين، مالية واجتماعية، مع صعوبة متفاقمة في فرص الحصول على السكن بالنسبة للطبقات الشعبية والفئات المتوسطة. (لنتذكر أزمة الرهن العقاري، وهي أزمة مالية خطرة ظهرت على السطح فجأة عام 2007 والتي فجرها في البداية تهافت البنوك على منح قروض عالية المخاطر، وبدأت الأزمة تكبر ككرة الثلج لتهدد قطاع العقارات في الولايات المتحدة ثم البنوك والأسواق المالية العالمية لتشكل تهديداً لمجمل الاقتصاد المالي العالمي)

ويؤكد الاقتصاديون أن حسب السياسات النقدية الجديدة التي ستعتمدها أوروبا فإنه يكاد من المُحال تجنب حدوث «فقاعة عقارية» إذا ظلت أسعار الفائدة منخفضة على نحوٍ غير معتاد فترة طويلة. لذلك يمكننا أن نتوقع ارتفاعاً حادّاً ومستمراً في أسعار المساكن في أوروبا التي ارتفعت بالفعل أكثر من 8% خلال عام واحد. هكذا سيكون التوازن الاقتصادي الجديد الذي سيظهر في أوروبا فترة طويلة ضمن «اقتصاد الحرب»: أسعار الفائدة المنخفضة، والإنفاق العام المرتفع، والضغط الضريبي المتزايد في حال ظهور التضخم، وفقاعات في أسعار الأصول.

**** فرنسا هي الأسوأ

بالعودة إلى إعلان ماكرون المذكور بدايةً، فإن الاقتصاديين يرون أن فرنسا ربما ستكون الأسوأ حالاً، لذلك عليها البدء بمراجعة جذرية لسياساتها الاقتصادية، وليس فقط سياساتها العسكرية والدفاعية كما دعا ماكرون، علماً أن هذا الأخير كان حديثه موجّهاً لكل الأوروبيين، إذ إن حرب أوكرانيا و«الإنفاق الكبير على شراء الأسلحة من مكان آخر ليس فكرة جيدة». حسب ماكرون. والمقصود هنا بالمكان الآخر هو الولايات المتحدة الأميركية، إذ إن الدول الأوروبية تشتري الأسلحة منها لمصلحة أوكرانيا وفق تعهدات هذه الدول بدعم أوكرانيا بالأسلحة المطلوبة، ليس للانتصار، فهذا ليس في متناول اليد، بل لإطالة أمد الحرب، وفق أوهام الأوروبيين (والأميركيين) بأن هذه الإطالة سترهق روسيا وستهزمها على المدى الطويل.

ماكرون على يقين من أن أوروبا عاجزة تماماً حتى وهو يقول لأقرانه: «لا يزال أمامنا الكثير لنفعله للتكيف مع التحولات العميقة التي نمر بها». هذا يشبه الأوهام حول هزيمة روسيا لكنهم لا يستطيعون إلّا أن يتخذوا المواقف نفسها التي نشاهدها تباعاً منذ بدء حرب أوكرانيا في شباط الماضي، وهم يدركون أنهم مهزومون لا محالة.. إنه نوع من حفظ ماء الوجه، لا أكثر ولا أقل.

ولكن لماذا فرنسا – اقتصادياً – هي الأسوأ؟

يقول الاقتصاديون إن حرب أوكرانيا أخذت الاقتصاد الفرنسي في الاتجاه المعاكس لمسار التعافي الذي حققته في العام الماضي 2021 بعد أزمة كورونا، إذ بلغت نسبة النمو 7%

في الربع الأول من العام المالي الحالي 2022 استقر النمو عند درجة الصفر، وارتفع التضخم إلى 5.4% .. و إلى 7% خارج ما يسمى «الدرع» الذي يحدّ من ارتفاع أسعار الطاقة، ويمكن أن يصل إلى 10 ٪ في نهاية العام.

وعليه يحذر الاقتصاديون فرنسا، خاصة، من صدمة مالية عنيفة من جراء تبعات حرب أوكرانيا، إذ إن الاقتصاد الفرنسي يشهد عجزاً مزدوجاً في حساباته الخارجية والعامة، إذ سجّلت التجارة الخارجية اختلالاً قياسياً بلغ 31 مليار يورو في الربع الأول، و100 مليار خلال 12 شهراً متداولاً. ونصف التدهور ناتج عن ارتفاع أسعار الطاقة ونصف الزيادة البالغة 20٪ في واردات السلع الصناعية والمنتجات الزراعية، فضلاً عن فقدان حصة سوق التصدير. (ومن المعروف أن المالية العامة الفرنسية هي الأكثر هشاشة في منطقة اليورو بسبب حجم العجز الهيكلي).

ونحن لم نتحدث بعد عن أزمة أخرى هي أيضاً مزدوجة في العرض والطلب تكاد تشبه أزمة السبعينيات النفظية.. وإذا ما تمت تسوية الوضع على نحو مشابه، فإن التعديل النزولي للاستثمار والعمالة أمر لا مفرّمنه .. كذلك لم نتحدث عن اتجاه البنك المركزي الأوروبي لرفع أسعار الفائدة في تموز المقبل، ما سيضاعف عبء الديون التي ستصل- على أقل تقدير- إلى 114% من الناتج المحلي الإجمالي.

**** أين الولايات المتحدة؟

طبعاً، هذه لن تكون كل مشكلات فرنسا الاقتصادية، وعلى نحوٍ عام الأوروبيون يتحضرون للأسوأ من دون أن تكون بين أيديهم حلول جذرية، بينما لا تبدي حليفتهم، الولايات المتحدة، أي مساندة ، بل هي ستحتفظ بهم في الخطوط الأمامية أطول فترة ممكنة.. فهي تعمل بشكل أساس على عامل الوقت لكونه الخيار الأفضل، عسى أن يحمل هذا العام قبل نهايته تحولاً من نوع ما، يكون في مصلحتها، وإلّا فإن مصيرها الاقتصادي لن يكون أفضل حالاً من الأوروبيين.

 

شارك