بعد أن كان الحصول على موطىء قدم في القطاع الحكومي حلماً بعيد المنال أصبح آخر الخيارات.. فهل نشهد خطوات ملموسة تعيد لهذا القطاع حيويته أم نبقى على قيد التحمّل؟


كثرت طلبات الاستقالات من مختلف القطاعات، ففي دمشق وحدها خلال ستة أشهر وصل عدد الاستقالات خلال النصف الأول من العام إلى نحو 1800 استقالة، لأسباب معروفة للجميع في مقدمتها تدني الرواتب التي لم تعد تغطي نفقات المواصلات، والبحث عن فرص عمل بديلة، وعلى المقلب الآخر على مدى تلك السنوات كان القطاع العام رديفاً حقيقياً للجيش العربي السوري لضمان استمرارية العمل والإنتاج، أمام هذه المشهد كان المطلوب إجراءات حقيقية لتحسين واقع هذا القطاع، وإعادة بريقه قولاً وفعلاً، من خلال إجراءات يُفترض اتخاذها، وفي مقدمتها تحسين الرواتب الهزيلة ومكافحة الفساد .
من الواقع
في قراءة للواقع في مختلف قطاعاتنا نشهد نقصاً هنا وترميماً هناك ريثما تستقيم الأمور، على سبيل المثال وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك أول معوقات العمل لديها هو النقص بعدد المراقبين وعناصر التموين على أهمية هؤلاء العناصر، مثلاً أعداد محدودة تراقب في شتى المناطق, وفي المستشفيات نقص الأطباء والكادر التمريضي, وفي قطاع التعليم نقص المدرسين .. إلخ، وهذا وحده مؤشر على نقص الكادر الإداري في مختلف المنشآت إدارية واقتصادية وخدمية، الأمر الذي انعكس ليس على الكادر الموجود سواء بضغط العمل من خلال إنجاز العمل بكادر متواضع أو حتى الدوام والمناوبة لأيام متواصلة، بل على ضبط العمل وإنجازه كما هو مطلوب.
نقص حاد في جامعة دمشق
يؤكد مصدر مسؤول، فضّل عدم ذكر اسمه، أنّه تمّ رفض جميع طلبات الاستقالة المقدمة للجامعة باستثناء الاستقالات المبررة صحياً، أو بسبب نهاية الخدمة، مشيراً إلى أنه يوجد نقص كبير بالكادر التدريسي والجامعة بصدد إعلان مسابقة عن تعيين أعضاء الهيئة التدريسية، وكذلك فنيين ومعيدين.

الاستقالة حق كفله القانون لكن في ظل الواقع الراهن يجب ضمان استمرارية العمل

وأضاف: فيما يتعلق بالكادر الإداري كذلك يعاني من نقص حاد في جميع الفئات، ويتم ترميم النقص من خلال قبول جميع المتقدمين بطلبات نقل من الوزارات الأخرى، وأضاف: إنّ المسابقة المركزية رفدت الجامعة بـ30 موظفاً فقط لكن في حقيقة الأمر الاحتياج الفعلي كبير جداً أكثر من ثمانية موظفين في القسم الواحد، ولاسيما في قسمي الامتحانات والشؤون الإدارية، حيث يوجد في كل قسم موظفان اثنان فقط، وتنتج عن هذا أعباء كبيرة يتحمّلها الموظف خاصة أن العمل يحتاج إلى دقة وتركيز.
ضمن الطبيعي في المجتهد
و يتفاوت موضوع النقص في القطاعات من قطاع إلى آخر حيث يؤكد د. أحمد عباس مدير عام مستشفى المجتهد أنّ الاستقالات ضمن الحدود الطبيعية، إذ إنّ النقص الذي يعانيه المستشفى من الكادر الإداري لم يتجاوز 3%، لكن يوجد نقص في القطاع التمريضي والتقني، وبالتأكيد لدينا نقص كمشفى حكومي، وتم فرز 12 ممرضاً وفنياً ضمن المسابقة المركزية، لكن لم يلتحق سوى أربعة، أيضاً لدينا نقص في القطاع المخبري، حيث تمّ بموجب المسابقة المركزية فرز 20 فنياً لكن لم يلتحق سوى اثنين فقط.!
1800 استقالة
وصل عدد الاستقالات في دمشق وريفها خلال ستة أشهر لنحو 1800 استقالة تتضمن حالات (استقالة أو وفاة أو نقل) لعامل وعاملة أغلبيتهم من القطاع العام، ووفق أمين شؤون تنظيم العمل في اتحاد عمال دمشق عمر البوشي فإنّ أغلبيتهم من المصارف والقطاعين الصحي والخدمي، وهم من الشرائح التي تتطلب ظروف عملهم الالتزام بالدوام وهذا ما يجبر كثيرين على التقدم باستقالاتهم.

1800 استقالة في دمشق خلا

ل ستة أشهر أغلبيتها من المصارف والقطاع الصحي

ولا يخفى على أحد الظروف المعيشية الضاغطة والهمّ اليومي لتأمين أدنى متطلبات الحياة حيث تأتي في مقدمة الأسباب التي تدفع ذوي الدخل المحدود إلى التخلي عن وظائفهم، ويؤكد البوشي أن الشغل الشاغل لأغلبية الناس خاصة ذوي الدخل المحدود هو السعي لإيجاد مصدر دخل إضافي لهم ولأسرهم منها عن طريق الاستقالات والبحث عن فرصة عمل إضافية تزيد في دخلهم.
حق ولكن!
من المؤكد أنّ الاستقالة هي حق كفله قانون العاملين للعامل، لكن في هذه الظروف التي مرت على البلاد كان القطاع العام رديفاً حقيقياً للجيش العربي السوري من خلال تقديم التضحيات لضمان استمرارية العمل وعدم انقطاعه، ويؤكد البوشي أنه بموازاة ذلك لا بدّ من اتخاذ المزيد من الإجراءات، أولها تحسين الوضع المعيشي وزيادة الرواتب، وضبط الأسعار وهذه يمكن تحقيقها من خلال السيطرة على الأسواق .
التوجيه للمحافظين

من الملاحظ أنّ عدد طلبات الاستقالة في الجهات العامة ازداد بشكل كبير في الآونة الأخيرة، وهنا يؤكد أمين شؤون العمل في اتحاد العام لنقابات العمال جمال الحجلي أن بعض الجهات توافق ضمن أسس وضوابط معينة، لكن بالمجمل الوضع المعيشي السيىء أرغم الكثيرين على التقدم باستقالاتهم لإيجاد مصادر عمل إضافية، علماً أنّ بعض الوزارات عملت على منع أو عدم الموافقة على الاستقالات.

تيشوري: الحل باجتثاث الفساد من جذوره وتحسين الرواتب وإنشاء منظومة للإبلاغ عن الفساد

مضيفاً: كما هو معروف أن الراتب لا يغطي أجور المواصلات لاسيما في المناطق والأرياف التي تتطلب ظروف سكنها الذهاب يومياً إلى عملها.
ولفت إلى أنّ الاتحاد طلب من المحافظين تأمين المواصلات، ورصد الاعتمادات اللازمة، لكن بسبب نقص الاعتمادات لم تحلّ مشكلة المواصلات في العديد من الجهات، ويؤكد على تحسين الأجور وتطبيق نظام الحوافز وتأمين وسائل النقل للعمال.
ما ذا أنتم فاعلون؟
كاتحاد عمال مهمته الدفاع عن حقوق العمال يقول البوشي: تمّ اتخاذ العديد من الإجراءات، منها:
-سعي الاتحاد لإقامة دورات تقوية لأبناء العمال لشهادات التعليم الأساسي والثانوي شارك فيها نحو ٤٠٠٠ مشارك لـ١٨ مركزاً، وكانت لها نتائج إيجابية.

أمين شؤون العمل في الاتحاد العام لنقابات العمال:

بعض الوزارات عملت على منع أو عدم الموافقة على الاستقالات

– تكريم المتفوقين من القيادة النقابية .
– إقامة دورات مهنية منها صناعة الحلويات، الخياطة، المنظفات.
– إقامة نشاطات فردية لأبناء الاتحاد بأسعار رمزية .
– تم تعديل معظم صناديق التكافل وتعويضات نهاية الخدمة ورفع المبالغ وفق الإمكانيات .
– المساعدة في حل بعض الإشكاليات التي تحدث بين العمال وإداراتهم .
– بذل الجهود لتأمين بيئة عمل آمنة .
وختم بقوله: العمل على تثبيت المؤقتين ونحن على موعد مع فتح سقوف الرواتب، وكذلك العمل والمتابعة على عودة العاملين الذين تم فصلهم من وزارة العدل إلى عملهم.
الفساد ثم الفساد
د. عبد الرحمن تيشوري يؤكد أن أسباب الاستقالات معروفة في مقدمتها الفساد، والمتابع يلحظ أن الجهات المسؤولة عن مكافحة الفساد والرقابة لم تقم بدورها، لافتاً إلى وجود القانون 28 لعام 2018 الذي عدّل قانون وزارة التنمية الإدارية ولم تقم وزارة التنمية بترجمته على أرض الواقع.
والأكثر خطورة انتشار الفساد واختراقه منظومة التنشئة، إضافة للأسباب الرئيسة للفساد التي في مقدمتها تدني الرواتب وتطبيق القوانين والتبليغ عن حالات الفساد، وظروف الحرب التي ساعدت، والمطلوب سن قوانين أكثر شدة لمكافحة الفساد، وإنشاء منظومة أمنية للإبلاغ عن الفساد بشكل متجانس (هذه التجارب موجودة في فرنسا) واختيار شاغلي المناصب والإدارات على أساس الكفاءات والأهم استثمار خريجي المعهد الوطني للإدارة العامة.
أخيراً
أمام هذا المشهد المطلوب تثبيت الشباب في مواقع عملهم، من خلال تحفيز المنشآت للعمال واستقطابهم وتقديم المغريات للالتحاق بالعمل, لأنه لا يكفي أن نشير إلى المشكلات والعراقيل, التي ندفع أثمانها من كل الجوانب بل يجب اتخاذ إجراءات تنفيذية على أرض الواقع، وإلا سنتحول إلى مستهلكين ننتظر الفتات مما يزيد على موائد الآخرين، فهل نشهد خطوات ملموسة للعودة والتمسك بالقطاع العام، بعد أن كان الحصول على موطىء قدم فيه حلماً للكثيرين، أم نبقى على قيد التحمل والانتظار؟

شارك