الهيمنة المالية الأمريكية “المشهد العالمي” أدواتها وآفاقها المستقبلية

مما لا شك فيه أن الولايات المتحدة الأمريكية تعدّ حتى الآن الدولة الأقوى في العالم، حيث تمد أجنحة هيمنتها في سماء العالم بعدة طرق؛ مالية، واقتصادية، وعسكرية، وسياسية، وثقافية … الخ، وبالتالي يمكن القول إننا نعيش عصر الهيمنة الأمريكية (الأمركة) هذا ما بيّنه الدكتور رامي زيدان أستاذ الاقتصاد المساعد في كلية إدارة المشافي في جامعة الأندلس الخاصة بالقدموس خلال محاضرته التي ألقاها في قصر الثقافة في مدينة بانياس.

  • باحث: ست أدوات للهيمنة الأمريكية

وقد حظيت هذه القضية (الهيمنة الأمريكية) كما أشار د.زيدان باهتمام كبير من قبل الدارسين والباحثين وأجهزة الإعلام، حتى أضحت الموضوع (القديم الجديد)، والموضة المتجددة، خاصة بعد سقوط القطب المنافس لها عام 1991، وهو الاتحاد السوفييتي، فتحول بذلك العالم من ثنائي القطبين إلى أحادي القطب. ومما لا شك فيه أيضاً أن الهيمنة الأمريكية على العالم لن تدوم مدى الحياة، وذلك انطلاقاً من القراءات التاريخية والواقع، حيث لا يوجد مختبر اقتصادي أصدق من الواقع، وباعتقاد زيدان فإن عصر الهيمنة الأمريكية المطلقة الأحادية على العالم، باتَ في شوطه الأخير بسبب الأزمة في سورية.

   أدوات الهيمنة المالية

يشير د. زيدان إلى أن أدوات الهيمنة الأمريكية ساهمت كثيراً في الترويج لها، وإضفاء روح العالمية عليها بشكل ملموس وواضح، وفي معظم الأحيان كان يتم ذلك تحت مظلة الشرعية الدولية، باعتبار أن العديد من تلك الأدوات تابعة للأمم المتحدة، ولكن في حقيقة الأمر كانت المظلَّة الأمريكية تُجلّلها  وتُسيّرها، بما يوافق مصالحها وأهواءها. وتتمثل أدوات الهيمنة في ست أدوات رئيسة هي: الدولار، صندوق النقد الدولي، الشركات متعددة الجنسيات (العابرة للقارات)، منظمة التجارة العالمية، القوة العسكرية الأمريكية، وسائل الاتصالات الحديثة. ولكن يأتي الدولار كأهم أدوات الهيمنة على الإطلاق، ولكن كيف؟

صعود الدولار 

وأضاف زيدان: لنلقي أولاً نظرة تاريخية على كيفية صعود الدولار إلى القمة وتربعه على عرش العملات العالمية.

من أولى الدول التي بدأت تُفكر وتُخطط بشكل سري للتخلي تدريجياً عن معيار الذهب بعد الحرب العالمية الأولى

قبل الحرب العالمية الأولى كانت العملة الأكثر رواجاً هي الجنيه الإسترليني، وكانت معظم الدول تتبع معيار الذهب، ومع اندلاع الحرب العالمية الأولى عام 1914 لم يعد الذهب الموجود كافياً بالدرجة المناسبة لتغطية قيمة النقود الورقية، وكانت الدول بحاجة للسيولة لشراء الأسلحة، وكانت القوة الصاعدة الجديدة هي الولايات المتحدة، وهي أول الدول التي بدأت تُفكر وتُخطط بشكل سري للتخلي تدريجياً عن معيار الذهب، ومع اندلاع الحرب العالمية الثانية كانت أمريكا هي الرائدة في بيع الأسلحة للحلفاء وتقبض مقابلها الذهب، ومع حاجة إنكلترا المتزايدة للسلاح ضد ألمانيا اضطر الإنكليز للجوء إلى أمريكا لشراء الأسلحة وكانت تدفع بالذهب، فسيطرت أمريكا على معظم ذهب إنكلترا وأصبحت (أي أمريكا) تملك الأغلبية العظمى من ذهب العالم.

بعد عام 1976 أصبح النفط أحد أهم أدوات غطاء الدولار إلى جانب قوة الصادرات الأمريكية.

وكما أسلفت فإن أمريكا كانت تُخطط بشكل غير علني للتخلي عن معيار الذهب، حيث رسمت ذلك على مرحلتين؛ الأولى: كانت بعد أزمة الكساد العظيم خلال ثلاثينيات القرن المنصرم، عندما أصدر الرئيس الأمريكي /روزفلت/ الأمر التنفيذي (6102) بمنع أي مواطن أمريكي من تخزين عملات وسبائك ذهبية أو شهادات ملكية لذهب، وأمر بتسليمها إلى الاحتياطي الفيدرالي، لكن أمريكا ظلّت محافظة على تقييم عملتها مقابل الذهب. أما المرحلة الثانية: فبدأت بعد أن أصبح لدى واشنطن معظم ذهب العالم، ففي عام 1944 اجتمع ممثلو 44 دولة في /بريتون وودز/ من أجل التوصل إلى اتفاق مالي جديد للنظام المالي العالمي المقبل، ولأن أمريكا كانت تملك الأغلبية العظمى من ذهب العالم ــ كما تقدم ــ فقد قرر المجتمعون ارتباط عملات دولهم مباشرة بالدولار، وهو ما يُعرَف بقاعدة الصرف بالذهب (أو قاعدة الحوالات الذهبية الأجنبية فالوحدة النقدية الوطنية ترتبط بشكل غير مباشر بالذهب، كأن ترتبط العملة المحلية لسورية أي الليرة بعملة أجنبية /الدولار مثلاً/ قابلة للتحويل إلى ذهب) فقد كان الدولار أكثر ارتباطاً بالذهب والأكثر انعكاساً له على اعتبار أن أمريكا تملك أغلبية كمياته، حيث تعهدت واشنطن بتثبيت قيمة الدولار الذهبي عند (35) دولاراً للأوقية الواحدة، حيث كان بإمكان تلك الدول مبادلة ما لديها من دولارات بذهب من خزينة واشنطن عند الطلب، وبالمقابل قامت الدول الأخرى بتثبيت سعر صرف عملتها أمام الدولار، وهكذا أصبح الدولار المحور المركزي للنظام المالي وعملة الاحتياط العالمية. وخلال ستينيات القرن المنصرم بدأت أمريكا تواجه عجوزات ضخمة من جراء حربها ضد فييتنام وحروبها في مناطق أخرى من العالم، وبدأ ينفد ما لديها من احتياطي الذهب، ففي العام 1966 كانت البنوك المركزية غير الأمريكية تحتفظ بـ (14) مليار دولار بينما لم يكن لدى واشنطن سوى (13.2) مليار دولار من احتياطي الذهب منها فقط (3.2) مليارات قادرة على تغطية الحيازات الأجنبية والباقي كان لتغطية الحيازات المحلية، وحتى 14 آب 1971 كانت الدول قادرة على استبدال ما لديها من دولارات بالذهب من الاحتياطي الأمريكي، ولكن بتاريخ 15 آب 1971، أصدر نيكسون القرار الشهير بوقف تحويل الدولار إلى ذهب، حيث أصبحت العملات متحررة، وبذلك تم الانتقال إلى نظام الـ (FIAT) والتي تعني باللغة اللاتينية (يجب أن يتم) وهي النقد الورقي الإلزامي.

النفط أهم أدوات غطاء الدولار

وأضاف زيدان؛ وحتى لا تخسر واشنطن المزايا الجيوسياسية الكبيرة للدولار، فقد ارتأت أن ذلك لا يتحقق بتحقيق أكبر صادرات أمريكية للخارج مدفوعة بالدولار، إنما أن تكون صادرات دول العالم بالدولار، ولكن ثمة مشكلة كبيرة ألا وهي أن الدولار لم تعد له تغطية ذهبية لدى خزينة واشنطن، فكان الحل البديل هو العثور على مُنتَج مهم للغاية، تحتاجه جميع دول العالم، على أن يتم بيعه بالدولار، وليس بالضرورة أن يكون ذلك المُنتَج أمريكي الصنع، فكان النفط هو الخيار الأفضل، فعقدوا مع السعودية اتفاقية سرية عام 1976 بأن تبيع المملكة نفطها بالدولار، فأصبح النفط أحد أهم أدوات غطاء الدولار إلى جانب قوة الصادرات الأمريكية.

بعد الحرب العالمية الثانية ومشروع مارشال بدأ الاحتيال الأمريكي على العالم كله بإصدار نقد ورقي لا قيمة فعلية له

بعد كل هذا العرض فإن ما يجب ذكره عن الهيمنة المالية الأمريكية بوساطة الدولار، هو أن أكبر عملية غش واحتيال في التاريخ، قامت بها الولايات المتحدة، من خلال ما يُعرَف بمشروع مارشال لإعادة إعمار أوروبا. فبعد الحرب العالمية الثانية خرجت أوروبا ببنية تحتية مدمرة بشكل كامل وبضحايا فاقوا الـ /50/ مليون قتيل، بينما لم تخسر الولايات المتحدة الأمريكية سوى /200/ ألف قتيل، ما أدى إلى وضع الاقتصاد الأمريكي في الطليعة عالمياً حيث بلغ إنتاجه (30 %) من الإنتاج العالمي و (50 %) من إنتاج العالم الرأسمالي، ومنذ ذلك الحين بدأت عملية ( الزوغلة) الأمريكية والاحتيال الأمريكي على العالم كله بإصدار نقد ورقي لا قيمة فعلية له، نقد غير مُغطى بالذهب، وبمعنى أن 100 دولار ورقية تكلفة طباعتها 4 سنتات يمكن أن تشتري 30 برميل نفط (على أساس سعر برميل النفط وقتئذٍ البالغ 3.33 دولارات) بتكلفة 4 سنتات فقط، وهكذا تمت أكبر عملية نهب في التاريخ.

كتلة الدولار في التداول العالمي حتى عقد التسعينيات من القرن المنصرم أكثر من الحاجة الفعلية للسوق العالمية بـ /170/ مرة، أما الآن فهي أكبر بمئات المرات

ماركس كان يقول في كتابه (رأس المال): إذا وصل ربح رأس المال إلى (300 %) فليس هناك جريمة لن يتوانى عن ارتكابها، لكن ماركس لم يكن يحلم أن 4 سنتات ستأتي بـ 100 دولار أي (250 ألفاً %). ومنذ صياغة اتفاق (بريتون وودز) بشكله النهائي عام 1946 الناظم للتداول النقدي العالمي، منذ ذلك الحين وآلة الطباعة الأمريكية تعمل بتسارع متزايد، حيث أصبح الدولار محمياً بفضل عاملين اثنين؛ العامل الأول: القوة الاقتصادية الأمريكية التي فرضت تسعير جميع المواد الخام في العالم بالدولار فثبت وضعه كعملة عالمية بلا منافس. أما العامل الثاني: القوة العسكرية التي تحمي الاقتصاد الأمريكي (الدولار) عند اللزوم. إذاً وصلنا إلى وضع فريد من نوعه، ففي السابق كان الفائض بالإنتاج الرأسمالي هو بضائع، أما الفائض الجديد فهو سلاح ومال. وفي ذلك تجلٍّ لعلاقة جدلية حيث أن وضع الدولار عالمياً يحميه فائض السلاح وحيث يقوم فائض المال بالصرف على السلاح، وإلّا فمن أين يصرف الأمريكيون على ألف قاعدة عسكرية في العالم ؟ بالطبع من تلك الدولارات التي يطبعونها ويرمونها في الدول الأخرى، حيث تشير الدراسات إلى أن كتلة الدولار في التداول العالمي حتى عقد التسعينيات من القرن المنصرم أكثر من الحاجة الفعلية للسوق العالمية بـ /170/ مرة، أما الآن فتشير الدراسات إلى أنها أكبر بمئات المرات. شعر الرئيس الفرنسي الشهير (شارل ديغول) في أواخر الستينيات بخطورة هذا الأمر، وأن الولايات المتحدة تضحك على حلفائها الأوروبيين والعالم، فجمع كل الدولارات الأمريكية الموجودة في المصارف الفرنسية وحملها إلى الأمريكيين وقال لهم: أعطوني ذهباً مقابل هذه الدولارات، فاضطر الأمريكيون لأن يعطوه 200 طن من الذهب، ولكن مقابل ذلك دفع (ديغول) الثمن غالياً حيث اتخذ الأمريكيون إجراءين اثنين؛ الأول: تآمروا على (ديغول) وأزاحوه عن السلطة، والإجراء الثاني: ألغوا ارتباط الدولار بالذهب حيث أصدر الرئيس الأمريكي (نيكسون) القرار الشهير بتاريخ 15 آب 1971 القاضيبوقف تحويل الدولار إلى ذهب أي ألغوا اتفاق (بريتون وودز) الذي كان ينظم التعامل النقدي الدولي، ولكن ومما لا شك فيه أنه مع سقوط الاتحاد السوفييتي عام 1991، وتحوُّل دول المنظومة الاشتراكية التي كانت تدور في فلك الحانوت السوفييتي والصين إلى اقتصاد السوق، وهيمنة علاقات الإنتاج الرأسمالية في دول العالم النامية، وظهور اليورو كمنافس حقيقي للدولار، بالإضافة إلى تصاعد قوة الروبل الروسي واليوان الصيني، اللذين عُدّا عملتين طاردتين للدولار من مساحتهما إلى حدٍّ كبير، ما كشف فائض الدولار وكانت توقعات الخبراء الأمريكيين أن هذه الفقاعة المالية ستنفجر في آذار 2008 لكنها انفجرت في آب 2008.

حتى الآن أكثر من 60 % من جميع احتياطيات البنوك من العملات الأجنبية مُقوّمة بالدولار، وحوالي 40 % من ديون العالم

الآفاق المستقبلية

وبيّن زيدان أنه الآن أكثر من 60 % من جميع احتياطيات البنوك من العملات الأجنبية مُقوّمة بالدولار، وحوالي 40 % من ديون العالم كذلك، ولا يزال الدولار قوياً، ولكن كما ذكرت، فإن عصر الهيمنة الأمريكية المطلقة الأحادية على العالم، يشهد جزراً بعد أن كان مداً، من دون أن يعني ذلك غيابه، إنما استمراره، ولكن ليس بالوتيرة والزخم السابقين نفسيهما، أمام حصول مدٍّ لقوى أخرى منها دول البريكس التي تضم خمس دول هي (روسيا، الصين، الهند، البرازيل، جنوب إفريقيا) التي تشكل مجتمعةً تكتلاً سياسياً واقتصادياً قوياً وندّاً حقيقياً لأمريكا، وما يرافق ذلك من احتمال تبادل تلك الدول البضائع فيما بينها بعملاتها المحلية، أو بعملة موحدة مُتفق عليها، وخير دليل اتفاق روسيا والصين على التبادل التجاري بينهما بعملاتهما المحلية (الروبل واليوان).

تشرين – رفاه نيوف
شارك